165

Napoleon Fi Misr

نابوليون بونابارت في مصر

Genres

وكان نابوليون مع شديد عزمه، وبالغ صبره وجلده، أسفا كئيبا يحرق الأرم على الإنكليز الذين قضوا على آماله، وسدوا الطريق على أحلامه، وقطعوا بينه وبين الوصول إلى بلاده، وكان الجيش لتغيظه وانحطاط قواه المعنوية كلما وصل إلى بلدة أو قرية من قرى الشام يمعن فيها قتلا ونهبا وسلبا، ثم يشعل فيها النار خوفا من انقضاض القوم على الجند بدعوى أن ذلك خير وسيلة حربية مشروعة لتعطيل العدو عن تعقبه ومطاردته ...

وروى المؤرخون من فرنساويين وإنكليز أن نابوليون وجد في يافا عددا كبيرا من جنوده المصابين بالطاعون وأمراض أخرى فتحير في أمرهم، ولم يرد أن يتركهم فريسة في يد أعدائهم، اعتقادا منه بأن جنود الجزار لا يبقون عليهم ولا يرحمون ضعفهم ومرضهم، ولا غرابة أن يعتقد نابوليون ذلك الاعتقاد؛ إذ إنه هو لم يرحم الأسرى العزل من السلاح، ولم تسلم النسوة ولا الشيوخ ولا الأطفال من اعتداء جنوده، وكذلك لم تكن لديه وسائل لنقل أولئك المرضى إلى مصر، فاقترح نابوليون على الأطباء أن يجرعوهم السم ليموتوا موتة هينة بدلا من تعريضهم، على ظنه لقساوة أعدائهم والتمثيل بهم! فكان جواب الأطباء: «إن صناعتنا تقضي علينا أن نبرئ لا أن نميت»!

وهنا اختلاف كبير في هذه الرواية فكثير من الكتاب يؤكدها، وكثير منهم ينفيها وينكرها، ونابوليون نفسه في سانت هيلانة ينكر أشد الإنكار أنه أصدر أمره بتسميم المرضى، ولكنه من جهة أخرى يقول: إنه لو وجد نفسه في مثل ذلك الحال؛ أي: لو كان كواحد من أولئك المرضى، لفضل أن يتجرع السم ليموت موتة هادئة سريعة، وإنه لو أصدر أمره للتعجيل على حياة المرضى الذين قضى عليهم الموت، لما وبخه ضميره ولكان في عمله محقا.

والظاهر من اختلاف الروايات، ومن أقوال بعض قواد نابوليون، ومن دفاعه هو عن نفسه في مذكرات سانت هيلانة، أن نابوليون اقترح على الأطباء تجريع المرضى نوعا من السم أو الأفيون، وأنه لما رأى شدة معارضتهم له، ترك مع المرضى بعض الجند لحراستهم، ونقل من أمل فيه الشفاء معه، بدليل أنه ورد في أخبار الانسحاب أن نابوليون كان يمشي على قدميه في الصحراء واقتدى به الضباط والخيالة تاركين للمرضى الخيول والدواب.

والخلاصة أن حملة الشام قد فشلت فشلا ذريعا، ولم يعد من القوة التي سار بها نابوليون، وهي كما ذكرنا ثلاثة عشر ألفا، غير سبعة آلاف على تقدير الكتاب الإنكليز قد انحلت عزائمهم، وانحطت قواهم، ولكن بعض الكتاب الفرنساويين يؤكدون أن الجيش الفرنساوي عاد من سورية وكان عدده في الصالحية 11.123 فيكون القنص ألفين فقط، قتل منهم خمسمائة في ساحات القتال ومات في المستشفيات 700 وترك في معسكرات العريش وقطية نحو ستمائة ونحو مائتين تقدموا الجيش إلى مصر، فتكون الخسارة الحقيقية للجيش لا تزيد عن ألف ومائتين إلى ألف وخمسمائة على تقدير أولئك الكتاب، وفرق كبير بين هذا العدد وسبعة آلاف كما يقول الإنكليز، وفي رأي «بيريه» أن الحملة الفرنسية في سورية فقدت ثلث رجالها؛ أي: نحو أربعة آلاف بين قتيل وجريح ومطعون، وربما كان هذا التقدير أقرب إلى الصواب، وهذا يوافق ما نقله المعلم نقولا الترك في رسالته؛ إذ ذكر أن الفرنساويين «خسروا ثلاثة آلاف وخمسمائة «صلدات» على أسوار عكا ومات بالطاعون نحو ألف وزيادة.»؛ أي: أن الخسارة كانت حوالي أربعة آلاف وكسور .

وكيفما كانت الخسارة فنابوليون مع هذا لم يرد أن يفهم جيشه أنه عاد من سورية بالخيبة والفشل، ولذلك نشر بينهم منشورا طويلا قال فيه: أيها الجنود، إنكم قد قطعتم القفار الواقعة بين آسيا وإفريقيا بسرعة تحاكي سرعة مسير جيش من العرب على خيولهم، وبددتم الجيش الذي كان ذاهبا ليهاجم مصر، وألزمتم الجيش الثاني الذي كان يقصد به الإغارة على وادي النيل، أن يأتي إلى عكا لإمدادها، وقد فتحتم العريش وغزة ويافا، وهدمتم قلعة عكا! فالآن سنذهب إلى مصر؛ لأن العدو مصمم على مهاجمتها ... إلى غير ذلك من الأقوال التي قصد بها طبعا تقوية عزائم الجند على اجتياز تلك الصحاري المحرقة مرة ثانية.

وكذلك لم يرد نابوليون أن يدرك المصريون أنه قد باء بالخيبة والخسران في حملته السورية، فبعث قبل مقدمه إلى مصر بمنشور للديوان الخصوصي قال فيه:

إلى محفل ديوان مصر، نخبركم عن سفري من بر الشام إلى مصر، فإني بغاية العجلة بحضوري لطرفكم بعد ثلاثة أيام تمضي من تاريخه، ونصل عندكم بعد خمسة عشر يوما وجايب معي جملة محابيس بكثرة ومحقت سراية الجزار وسور عكا، وبالقنبر هدمت البلد، ما أبقيت فيها حجرا على حجر، وجميع سكانها انهزموا من البلد إلى طريق البحر والجزار مجروح، ودخل بجماعته داخل برج من ناحية البحر وجرحه يبلغ لخطر الموت، ومن جملة ثلاثين مركبا موسوفة عساكر الذين حضروا يساعدون الجزار ثلاثة غرقت من كثرة مدافع مراكبنا. ا.ه بحروفه.

ومما تجب ملاحظته على هذا الكذب والتضليل أنه لا توجد صورة لهذا المنشور بأية لغة أوروبية، وليس له أصل فرنسي؛ لأنه - مع هذا التضليل - أعقل من أن ينشر هذه السخافات في لغة أوروبية يحاسب عليها من قوم يفهمون ويعملون!

وختم خطابه هذا بالعبارة الآتية «نقلا عن الجبرتي»: «وإني مشتاق إلى مشاهدتكم؛ لأنكم عملتم غاية جهدكم من كل قلبكم لكن جملة «فلانية» «كذا» دائرون بالفتنة لأجل ما يحركون الشر في وقت دخولي، كل هذا يزول مثل ما يزول الغيم عند شروق الشمس وقنتورة

Unknown page