وأما خطته السياسية الخارجية تبعا لمقتضى ظروف هذا المركز، فكانت ترمي إلى التودد إلى الدولة العثمانية، وأمراء المسلمين في الشام والحجاز.
وسنأخذ الآن في بسط الأعمال التي قام بها نابوليون لتنفيذ هذه الخطة في وجوهها المختلفة، أما مع المصريين فإنه ما كادت تستقر قدمه في القاهرة حتى أخذ يزور علماء الأزهر وكبار المسلمين في دورهم، ويدعوهم إليه ويحادثهم ومنهم علم أن موعد الاحتفال بوفاء النيل قد حان، فانتهز هذه الفرصة لإقامة شعائر ذلك الاحتفال بمزيد الأبهة ومظاهر الأفراح التي يألفها المصريون، ويتخذها رجال السياسة آلة لإلهاء الشعوب، وصرفها عن أمور كثيرة، بما في ذلك من إدخال السرور على الجنود، وصرفهم عن التفكير في حقيقة موقفهم. (3) حفلات ومظاهر
كان وصول نابوليون للقاهرة مساء يوم الأربعاء «3 ربيع الأول/15 أغسطس» قال الجبرتي: «ففي يوم الجمعة خاصة أمر صاري عسكر بالاستعداد وتزيين العقبة كالعادة، وكذلك زينوا عدة مراكب وغلايين، ونادوا على الناس بالخروج إلى النزهة في النيل والمقياس والروضة على عاداتهم وأرسل صاري عسكر أوراقا لكتخدا الباشا «وكيل الوالي الذي بقي بعد خروجه كان اسمه مصطفى بك»، والقاضي التركي «الذي أبقوه في وظيفة القضاء الشرعي لإفهام المصريين أن صفة السيادة العثمانية محفوظة»، وأرباب الديوان وأصحاب الثورة والمتولين المناصب وغيرهم بالحضور في صبيحة «يوم السبت 6 ربيع الأول و18 أغسطس»، وركب «نابوليون» بموكبه وزينته، وعساكره وطبوله وزموره، إلى قصر قنطرة السد وكسروا الجسر بحضرتهم وعملوا شنك مدافع ونفوطا «أي أطلقوا المدافع والصواريخ» حتى جرى الماء في الخليج وركب وهم صحبته حتى رجع داره.»
وكتاب الفرنساويين يصفون ذلك الاحتفال بالتطويل ويقولون: إن المصريين على بكرة أبيهم فرحوا وطربوا، وطبلوا وزمروا، وأن المشايخ جمعوا بين الدعاء لله سبحانه وتعالى، والصلوات على نبيه الكريم، وبين الدعاء لنابوليون وباركوه وبجلوه!!! هذا وصاحبنا الجبرتي يقول: «وأما أهل البلد فلم يخرج أحد منهم تلك الليلة للتنزه في المراكب على العادة سوى النصارى الشوام والقبط والأروام والإفرنج البلديين ونسائهم وقليل من الناس البطالين»!!
والمعلم نقولا الترك يقول في هذا الصدد: «وكان موكبا عظيما ومحفلا جسيما يذكر جيلا فجيلا، وعم الأمان كل الناس، وخرج الرجال والنساء من دون بأس وصنع أمير الجيوش وليمة عظيمة لسائر العلماء والأعيان، وأهل الديوان والجنرالية والفسالية «لعله يعني أوفسية، الضباط» وحكام الخطوط المصرية، وقد أعجبت أهل مصر القاهرة، تلك الأحوال الباهرة.»
والفرق بين جلال الجبرتي وتحفظه، والمعلم نقولا الترك ومغالاته، غير خاف سببه.
ويظهر أن نابوليون سرته نتيجة ذلك الاحتفال فأخذ يسأل عن الموالد والأعياد، فعلم أن المولد النبوي يقع في العاشر من شهر ربيع الأول، فاستدعى إليه السيد خليل البكري وقلده نقابة الأشراف، بدلا من السيد عمر مكرم الذي سافر مع إبراهيم بك واستقر بغزة، قال الشيخ الجبرتي - وروايته في هذه الأمور أصدق الروايات - «ثم سأل صاري عسكر الشيخ خليل البكري عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم، فاعتذر بتعطيل الأمور وتوقف الأحوال، فلم يقبل «نابوليون» وقال: لا بد من ذلك، وأعطى له ثلاثمائة ريال فرنسية معاونة، وأمر بتعليق تعاليق «كذا» وأحبال وقناديل واجتمع الفرنساوية يوم المولد ولعبوا ميادينهم وضربوا طبولهم ودبادبهم، وأرسل الطبلخانة الكبيرة «الجوفة الموسيقية العسكرية» إلى بيت الشيخ البكري، واستمروا يضربونها بطول النهار والليل بالبركة تحت داره، وهي عبارة عن طبلات كبار مثل طبلات النوبة التركية، وعدة آلات ومزامير مختلفة الأصوات مطربة، وعملوا حراقة نفوط مختلفة وصواريخ تصعد في الهواء.»
وفي رواية كتاب الفرنساويين أن نابوليون أعطى السيد البكري ألفا وثمانمائة فرنك «فأما أن يكون الريال الفرنسي ستة فرنكات والمعروف أنه خمسة، أو أن رواية الشيخ الجبرتي أقل تسعين ريالا»، وأن نابوليون ذهب إلى منزل السيد البكري حيث جلس بجوار المنشدين الذين أخذوا في تلاوة القصة النبوية، وكان يهتز معهم كأنما هو مشارك لهم في التلاوة والنغمات، ثم مدت الموائد، وكان عددها يربو على عشرين مائدة نصبت على الطريق الشرقية في بهو كبير، وكانوا يجلسون على وسائد لا على كراسي وحول كل مائدة خمسة أو ستة أنفار، وقد جلس نابوليون حول واحدة من هذه الموائد وبجواره السيد البكري، وتفرق كبار قواده حول الموائد الأخرى يأكلون مع القوم بأيديهم.
وكان منزل السيد خليل البكري إذ ذاك بالقرب من بركة الأزبكية في الجهة الجنوبية من ميدان الأوبرا الحالي، حيث العمارة المطلة على الميدان الآن، وكان السيد خليل البكري من الذين توددوا للفرنساويين كثيرا، ولقي بسبب ميله إليهم متاعب كثيرة في أثناء التقلبات والثورات التي سيجيء ذكرها، ولم يكن السيد خليل البكري المشار إليه من ذوي الأخلاق الفاضلة، بل كان - كما يؤخذ من ترجمته في وفيات الجبرتي ومن أخباره الواردة عنه - متساهلا في أمور دينه على شاكلة أبناء الأسر العريقة في الحسب الذين أخذوا بأسباب النعيم والترف، وللجبرتي كلام طويل عن خروج ابنه البكري «عن حدود الحشمة مع الفرنساويين»، وعن السيد البكري ومملوكه، نضرب عنه صفحا، وإنما أشرنا إليه من قبيل وصف الحالة الأخلاقية لبعض دعاة الأمة في ذلك الحين، والمعلم نقولا الترك يذكر السيد البكري، بعد حكاية مولد النبي فيقول عنه: «وقد كان السيد خليل البكري محبا لجمهور الفرنساوية، فلأجل ذلك بغضه الإسلام «أي المسلمون» المصرية.»
وما كاد يفرغ نابوليون من هذا الاحتفال حتى فكر في تقليد إمارة الحج: قال الشيخ الجبرتي: «وفي عشرين «ربيع الأول/أول سبتمبر» قلدوا مصطفى بك كتخدا الباشا على إمارة الحج فحضر إلى المحكمة عند القاضي، ولبس هناك الخلعة بحضرة مشايخ الديوان، والتزم بونابرت بتشهيل مهمات الحج.» وقد نشر لاكروا خطابا كتبه نابوليون في ذلك الوقت ليبعث به إلى الشريف غالب بن مسعود أمير مكة، ولم يرد لهذا الخطاب ذكر في الكتب العربية، ولذلك رأينا أن نأتي على نصه:
Unknown page