كان سي زعرور يقوم بإعطاء دروس عربية خاصة لطفل أوروبي كان يعيش مع خالته، وكانت هذه السيدة تعيش مع نائب «أصيل» من نواب المجلس البلدي، تساعده في نصب حبائله لاقتناص أموال الشعب وخزينة البلدية، وتقاسمه الأرباح دون المسئوليات ...
كان الاثنان جالسين في خلوة يدبران أمرا يتوسمان من ورائه أرباحا جزيلة، واحتاج الأمر إلى شخص ثالث، شخص يتقدم لإبرام الصفقة بناء على تزكية النائب المحترم.
حار الاثنان في إيجاد الشخص وقد طلب منهما عملاؤهما السابقون أجورا باهظة لم يرضيا بها، ولم يرض العملاء بدونها ...
كان النائب وزميلته في حيرة من أمرهما إذ دخل سي زعرور يجر أذياله قاصدا حجرة الطفل لتلقينه درسه المعتاد، وما كادت السيدة تشاهده حتى هبط عليها الوحي وعرضت على صديقها استخدامه لهذا الغرض وسواه من الأمور والأعمال، وذهبت تطري سذاجته وتثني على جهله بالحياة ودقائقها ... واستدعي المعلم الساذج إلى حضيرة الذئاب، وعرضا عليه العمل معهما وأغرياه براتب شهري مضاعف لما كان يتقاضاه سابقا في مدرسته.
سر سي زعرور للأمر وحمد الله الذي عوضه بدل درهمه دينارا، واستسفر عن نوع العمل فأفاداه أنه عمل إداري بسيط لا يعدو توقيع العقود التجارية وتسلم المبالغ المالية من إدارة البلدية والشركات التجارية ... ووقع سي زعرور على أول عقد، وتمت الصفقة التي كان النائب وزميلته ينتظران إنهاءها بفارغ الصبر ...
توالت الأعمال وتبعتها الأرباح، وشاء القدر أن يطلع زعرور على أسرار القوم وأن يعرف كنه العمل الشائن الذي هو قائم به، فثار ضميره مؤنبا وحرمه لذة العيش، وغاضه أن يفقد شرفه ويخسر فضله وقد ضحى في سبيلهما بكل شيء، وتحمل من أجلهما الفاقة والاحتياج. وعاد بذاكرته إلى مدرسته، فبدت له جنة، وإلى مديره وزملائه فبدوا له ملائكة، فثار على رفيقيه وهددهما بالفضيحة، ولكنهما هدداه بإلقائه في غياهب السجن، وكل شيء باسمه حتى الرصيد المالي المودع في المصرف ...
عاش سي زعرور في اضطراب متواصل وهم وغم عظيمين، كادت كلها أن تذهب به إلى الجنون، وقرر أخيرا أن يشرب الكأس إلى الثمالة، فاستولى على المكتب واستولى على الأموال وأعلن انفصاله عنهما، وكل شيء باسمه وتحت مسئوليته ...
وانقلب الحمل الوديع ذئبا خطيرا، فكشر عن أنيابه وطرد النائب وصديقته من مكتبه، وحرم عليهما دخوله غير عابئ بالتهديد والوعيد ...
سارت أمور زعرور في مجراها المادي المعتاد على خير ما يرام، وقد اكتسب خبرة وتجربة، وصهرته الأيام في بوتقتها وصبته في قالب الحياة، فخرج إنسانا جديدا لا يشبه خلفه في شيء إلا في الاسم أو بقية ضمير مثقل بالذنوب وشرف مدنس بالرذائل.
كان زعرور جالسا في مكتبه ذات يوم يتصفح بريده إذ لفتت نظره علبة صغيرة كانت ضمن الرسائل والرزم، ففتحها قبل سواها وإذا به يجد داخلها وساما بنفسجي اللون يحمل إشارة المعارف، تصحبه رسالة رقيقة تثني على معارفه وشرفه، وتطري أخلاقه وفضله، ومع الرسالة تقرير يمنحه وسام المعارف ...
Unknown page