وهكذا يسترسل خالد في تحليل مساوئ المجتمع ونقده، وإبداء نظرته إلى الحياة، وجماعته يؤمنون على قوله، وبدا بذلك، شاذا عن هذه البيئة التي قدر له أن يعيش فيها، وزد على ذلك صراحته التي عرف بها والتي كثيرا ما تحرج قلوب بعض الناس الذين تجمعه الظروف بهم، رغم محاولاته دائما في الابتعاد عن هذه الطائفة من العباد الذين لا تحلو لهم الحياة إلا في جو من النفاق والكذب، وربما خرجت به هذه الصراحة إلى حدة سببت له متاعب مادية وأدبية لا يحتفل بها ولا يلتفت إليها ... •••
هكذا عاش هذا «الرجل من الناس» مع الناس، وشاع خبره بينهم، فرغب البعض في التعرف إليه والاتصال به، بينما زهد آخرون في الاجتماع به مكتفين بما يشاع عنه من خير وشر، أما هو فقد اكتفى بجماعته البسيطة لا يريد عنهم بديلا، ولكن كل ذلك لم يمنع الناس من التساؤل عن أصل هذا الرجل العجيب، مدفوعين بدافع الفضول، فمن أين أتى؟ وإلى أي عائلة ينتمي؟ وفي أي بلد نشأ؟ ولم يجرؤ أحد منهم على سؤاله، فإن حدة لسانه وحدة أعصابه أخرست ألسنة الفضوليين. وعاش خالد في أكناف هذا الغموض كما أراد واشتهى، واستمرت حياته متتالية متشابهة لا يكاد يختلف يومه عن غده، راضيا بمصيره لا يتبرم ولا يشتكي، قانعا بمدخوله الزهيد وحجرته المتواضعة ومجتمعه البسيط.
وذات يوم ... زار زائر أجنبي خالدا ... علم به كل من في البلدة، رغم أن زيارة الرجل القريب كانت حقيقة مقتضبة وفي ليلة حالكة الظلام، أشاع خبرها جار لخالد، لم يتعود منه استقبال زوار في حجرته لا ليلا ولا نهارا ...
وذهب الناس يتساءلون عن هذا الزائر وعن أسباب زيارته، ولزم خالد الصمت فلم يذكر شيئا قليلا ولا كثيرا عن هذه الزيارة، ولم يشأ الخاصة من أصدقائه أن يستوضحوه أمره ما دام رغب هو في الكتمان، ثم لم يتعودوا منه أن يدخلهم في شئونه الخاصة ... رغم أنهم لاحظوا عليه تبديلا واضحا، حيث أصبح الرجل في وجوم متواصل، يتكلف الابتسام والدعابة. وبدأ الشحوب على قسمات وجهه جليا مما يدل على أنه يقاسي أزمة شديدة يخفي أمرها على الجميع، ولكن راعهم منه أنه لم يغير من عاداته ومجالسه وأحاديثه شيئا، واستمر على هذه الحالة أياما عديدة كانت بالنسبة له قرونا طويلة لا نهاية لها، يعد دقائقها وثوانيها ...
وذات صباح علمت البلدة كلها بخبر الشرطي السري الذي ألقى القبض على خالد ونقله معه في سيارته إلى حيث لا يدرون ...
وغدا الناس أياما، وهم يتكهنون محاولين كشف السر ومعرفة جرمه ... فمن قائل إنه جاسوس يعمل لحساب دولة أجنبية، وأجاب آخرون: إن الجاسوس لا يلزم بلدة صغيرة سنوات عديدة، لم يعرف عنه أنه فارقها منذ استوطنها ... وقال آخرون إنه مجرم أثيم، يتستر تحت رداء الفضيلة وحمايتها.
غير أن الذين عرفوه واتصلوا به عن كثب ردوا عنه هذه التهمة واستبعدوا منه صدور الجريمة، وذلك لما يعرفون فيه من الأخلاق الفاضلة والعواطف السامية ... وهكذا كثرت التكهنات والتخيلات، ولكن أحدا لم يستطع أن يجزم أنه أصاب كبد الحقيقة وتوصل إلى معرفة السر الخفي ...
ومرت الأيام وأسدل النسيان ستائره على حادث خالد، فنسيه الناس حتى الخاصة من أصدقائه وجلسائه، وانتقل الجميع من الحديث عنه إلى أحاديث أخرى أكثر جدة وطرافة.
وهكذا عاش «رجل من الناس» بينهم لغزا غامضا، واختفى لغزا غامضا دون أن يترك لهم مفتاحا لحل طلسمه الغامض الخفي.
فقاقيع الأدب
Unknown page