وذات صباح بينما كنا جالسين في مقهانا المعتاد نتجاذب أطراف الأحاديث والنكات، إذ قدم علينا العم «نتيش» بقامته الفارعة الطول وهيكله النحيل المجرد من اللحم، وما كاد يأخذ مجلسه بيننا حتى ابتدرناه بالسؤال عن مشاكله ومغامراته مع عمه، وابتسم «نتيش» ابتسامة عريضة وقال: «الدعوة مطينة يا لولاد ...»
وألححنا عليه في محادثتنا عن هذه المسألة «المطينة»، فقال بكل هدوء وبساطة: زارني البارحة جماعة نصف الليل! ... وجماعة نصف الليل في لغة العم «نتيش» هم اللصوص، قال: كنت البارحة وحدي في المنزل، حيث قضت زوجي والأطفال ليلتهم عند عمي، كنت مستلقيا في فراشي أتصيد الكرى إذ لاحظت في غسق الليل لصين يتجولان في غرفتي باحثين عما غلا ثمنه وخف وزنه، ولكن مع الأسف ماذا يملك نتيش سوى قدر من الطين وقصعة من خشب، والمؤنة تأتينا يوما بعد يوم من دار عمي موزونة بميزان الذهب، لا تزيد درهما واحدا عن حاجتنا ... وكنت أنظر إليهما - وضوء المنور ساطع على وجهيهما - فقد كانا مطمئنين يظنان المنزل خاليا، ولكن علامات الحسرة كانت بادية عليهما بوضوح، وغاضني أن يعودا من حيث أتيا بخفي حنين، فنبهتهما إلى ملحفة جديدة من الصوف كانت في ركن خفي من أركان الغرفة لم ينتبها إليها وطلبت منهما ألا يعودا إلى أمثال هذه المنازل الفقيرة الخالية، ومنزل عمي على مقربة من هنا زاخرا بمختلف الأرزاق والخيرات ...
قلنا له: كيف تفعل ذلك وتناول لصين غطاءك وغطاء أهلك؟
فضحك وقال: إنه ملك عمي استعرته منه، وما يضيره أن يصير في يد غيره، ولأي شيء تنفع أمواله! ... قالها بكل بساطة وابتسامة الانتصار على عمه تعلو شفتيه. •••
كان لنتيش غريم اسمه زيان، يكرهه كل الكره، لا لسبب أو داع، وإنما كان يكرهه لوجه الله، كما يقول حينما نسأله عن الأسباب والدواعي. كانت إحدى ساقي زيان مستعارة من خشب؛ إذ فقد ساقه الأصلية في حادث اعتداء لصوص على مزرعة لعم نتيش كان يقوم بحراستها، وكان السبب الحقيقي لكره نتيش له، أنه أضاع ساقه من أجل أموال عمه، ولهذا يغدو ينتقده ويصفه بالبله ويقول: إني والله لا أسمح بضياع شعرة من رأسي من أجل أموال الدنيا كلها ...
ويستمر في انتقاد زيان فيقول: أتظنوني مثل ذلك الأبله الذي فقد ساقه من أجل كيس من الشعير ينتفع به غيره؟
فماذا كانت فائدته، سوى ساق من الخشب، يكسر بها بلاط المساجد ويزعج بها عباد الله الآمنين؟!
قلنا: لو كنت مكانه، ألا تفعل مثله؟
قال: هيهات ... ولا أذهب بكم بعيدا، فقد أرغمني عمي في السنة الماضية على مشاركة عماله في حراسة الحبوب في البيدر، وكان بعضها صافيا نقيا، ينتظر نقله إلى المخازن، والبعض مختلطا بتبنه ينتظر هبوب الرياح المواتية لتصفيته. وكنا نتناوب الحراسة، وجاء دوري، وكأن اللص لم يكن ينتظر إلا ذلك.
قلنا مقاطعين: إن اللصوص يعرفون من دون شك تقديرك لهم وعطفك عليهم؟
Unknown page