Nakabat
النكبات: خلاصة تاريخ سورية منذ العهد الأول بعد الطوفان إلى عهد الجمهورية بلبنان
Genres
أجل، إن ذاك الإصلاح الديني وذينك الاختراع والاكتشاف لمن أنوار المدنية الأوروبية التي استمرت في التقدم والارتقاء، بينما كان الشرق الأدنى يتخبط في الظلمات، فيهبط من دركة إلى أخرى، ولا يخلص من ظالم سفيه إلا ليبلى بمن هو أظلم وأسفه.
خرجت الأمة السورية من حروب الصليبيين، وإغارات المغول، ومظالم الشركسة، ومن مخالب الأوبئة والمجاعات، وهي على آخر رمق من الحياة، لا ثروة، ولا علم، ولا صناعة، ولا أمل يعيد إليها النشاط للعمل، فتطلع الناس إلى الدولة التي أسسها السلطان عثمان التركماني على أنقاض الدولة السلجوقية، وهي يومذاك في إبان شبابها ومجدها، وعقدوا عليها الآمال.
هو الخطأ الذي يخطئه السوريون، أو بالحري الأكثرية في السوريين وهم المسلمون؛ إذ يظنون أن العمران والرقي والسعادة القومية لا تكون إلا بدولة إسلامية ذات صولة واقتدار. أما العدل والمساواة، والرفق بالرعية، وإحياء البلاد بالمشاريع الاقتصادية والصناعية، فهي على ما يظهر أمور ثانوية.
لولا ذلك لما كنا نتغنى بالدولة الأموية، ونحبذ تجديدها، وقد رأيناها، وهي في ذروة المجد والاقتدار، بعيدة عن ذلك العدل الذي زان سيرة الخلفاء الراشدين، فلا تحسن معاملة الأقليات في المملكة حتى ولا العصبيات العربية الإسلامية خارج عصبيتها. والمشكل الأكبر في كل زمان من أزمنة هذا التاريخ، هو هذه الأقليات والعصبيات التي نسيء إليها، أو لا نعدل فيها، فندفعها إلى المقاومة الطائشة العمياء، التي تضيع عندها حتى مصالحها.
وإننا نلوم بني أمية لأنهم من قح العرب، ومن أقرب الناس إلى ذاك الينبوع الإنساني الذي تفجر بمكة، ينبوع العدل والإخاء والمساواة. ولكن هناك، كما تبين لنا، من هم أبعد من بني أمية بمراحل عديدة عن الضالة المنشودة.
فقد أخر الإسلام والمسلمين شعوب آسيوية همجية، دخلوا في هذا الدين العربي، ولم يدخل في نفوسهم إلا القليل القليل من فضائله، فظلوا على فطرتهم الهمجية، وقبلهم أهل الشام حكاما لمجرد أنهم مسلمون ذوو صولة واقتدار، وقد كان حظهم وحظ إخوانهم أبناء الوطن الواحد من أولئك الفاطميين والأيوبيين والشراكسة والتراكمين، ما هو مدون في التاريخ وملخص في هذه النبذة منه.
وما كان الشقاء ليعلم سورية شيئا في اتقاء شرور مثل تلك النزعات والسياسات، ولا كانت العبر تؤثر في رؤساء الأمة، وهم كلهم ينشدون مصالحهم الخاصة؛ لذلك طفقوا يتلونون ويتذبذبون في إخلاصهم لملوك المماليك، عندما خفقت أعلام الهلال الأحمر على ضفاف البسفور وفوق حصون الآستانة.
وما كان آخر ملوك الشراكسة في الشام، قانصوه الغوري، ليحدث حادثا في تطور الأمة، أو ليوقف عاملا من عوامل الفساد والتفكك في الملك، بل كان هو من تلك العوامل نفسها ، وكان فوق ذلك هرما خرفا، يعتقد بعلم الجفر، ويتيقن أن الشر سيأتيه من رجل يبدأ اسمه بالسين. أما الأعجب من ذلك فهو أن يصح مثل هذا اليقين.
هاكم اسما يبدأ بسينين اثنتين: السلطان سليم.
باشر هذا السلطان العثماني فتوحاته بقتل أربعين ألفا من الشيعة في الأناضول، ثم زحف إلى الشام، فجرد الغوري جيشا للدفاع أكثره من المتذبذبين، فانكسر في وقعة مرج دابق (922ه/1517م) وتوفي هناك.
Unknown page