أولغا ليست جميلة، ولكنها متمدنة، هي تلبس كورسه إيديال وقبعة إفرنسية ووشاحا إنكليزيا وأساور أميركانية و... و...
وبحصر الكلمة هي خلاصة تمدن العالم كله ... تتكلم الإنكليزية والإفرنسية وتخلطها بشيء من العربي ... مسكينة سلمى ما كان أحقرها في عيني في الصيف الغابر حينما كانت تذهب للتنزه مع الغانية المتمدنة، سلمى تلبس قميصا من دير القمر، وفسطانها من ديما بيت شباب مفصل على طرز باريزي محض، فهي تخاف أن تشد على صدرها، وفي رجلها حذاء من جلد زحله ضخم بلون أغبر؛ لأنها تصبغه كل سنة مرة.
ولاحت على شفتي جميل ابتسامة صفراوية مركبة من كل العواطف المتزاحمة المتلاطمة في قلبه.
حين افتكاره بسلمى، تذكر الليلة التي أوشكت أن تمحى من مخيلته، وقد طبعت بكل تفاصيلها على قلب الفتاة المخدوعة، وعلى سفح لبنان وأشجاره وغديره؛ لأن لبنان كان محتملا إهانة جديدة من أبنائه بشخص فتاته الطاهرة الساذجة. •••
جنحت الشمس عن الهاجرة وهوت على منحدر المدار الذي ينتهي على أفق البحر، في أحد بيوت بيروت الكبيرة بإحدى قاعاته الواسعة العالية كانت عانس تبلغ الخامسة والثلاثين من سنيها، عريضة الأكتاف ثقيلة الردف مقطوعة من وسطها بزنار مذهب مربوط برخاء؛ لأنه لا يحتاج للشد، والكورسه من وراء الفسطان واصل إلى آخر ما يمكن للشريط أن يشد، وكانت جالسة على مقعد مخملي أحمر، وفسطانها الكحلي الفاتح متدل برخاء وترتيب على الأرض، وبيدها جريدة لم تزل مربوطة بغلافها، وبعد أن قلبت العانس جريدتها مرارا بين يديها ضربت على جرس كان بجانبها فدخلت الخادمة. - خذي هذه الورقة يا مريم فلربما تلزم للمطبخ.
وتناولت الخادمة الجريدة وبعد أن نظرت إليها بإمعان قالت: هذا جرنال معلمي نسيب وهو يسألني كل أسبوع عنه فكيف تريدين أن ألقيه بين أوراق المطبخ؟ - آه هذه الجريدة العربية خذيها حالا واحرقيها فإن نسيب قد أصبح مجنونا من يوم مطالعته هذه الورقة، فهو كل أسبوع يملأ آذاننا بأخبار جديدة وآراء مضحكة، فهو تارة يقول لي أن أتعلم العربي، وتارة يعطيني أوامر كيلا أقف على الكشف، مرة يعارضني إذ يجدني أحادث شابا على خلوة، ومرة يأتينا منشدا أشعارا يقول عنها إنها أسمى من نفس موسى وأرفع من خيال هيغو، وأنا أحتمل تشدقه فلا أفهم غير قرقعة القاف والضاد والعين، فأخاف على أذني أن تنسد.
والبارحة أتانا بنغمة جديدة، هو يريد أن ألبس قطعة ديما أحضرها من جهنم ... وقد لبس ثوبا شديد الشبه بملبوس الإيطاليان الذين يشتغلون على الطرق، وهو يقول إن هذه الأقمشة هي مصنوعات الوطن.
خذي هذه الورقة بالله عليك؛ لأنني أخاف أن يطلع عليها نسيب ويكون بها وصفة جديدة تأتيه بجنون جديد.
وأخرجت الجريدة العربية من غرفة المتفرنجة محمولة على أيدي مريم وهي لا تدري أن بها شرارة الحياة لبلاد تفتح عينيها للنور، ألقيت الجريدة في النار فالتهبت ومريم ناظرة إلى لسان اللهيب الأزرق المتلاعب في الموقد، وهي لا تدري بأن تلك النار هي روح الوطنية وأنفس الكتاب السائلة كقطرات الدمع على تأخرنا وضلالنا، وهنالك في الغرفة الواسعة كانت أولغا قد أخذت من جنبها كتاب «صفحة غرام» بقلم أميل زولا، واستغرقت في القراءة معجبة بالسموم التي كانت تدخل لقلبها ضاحكة من جنون أخيها وحبه للجرايد العربية.
وما لبث حتى فتح الباب على مهل ودخلت الخادمة قائلة: سيدتي أتى جميل. - أين هو؟ دعيه يدخل حالا.
Unknown page