بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه وجميع المؤمنين.

وبعد:

فقد طلب مني بعض الأخوان أصلح الله لنا ولهم الشأن أن أوضح له الدليل في نجاسة الدم المسفوح وأن أبين له العلة التي أوجبت تنجيسه...فكان معنى ما قاله: إنا قد رأينا كلمة أصحابنا منطبقة على نجاسة الدم المسفوح مع أنا لم نعثر لهم في ذلك على دليل ولم نفهم ما قصدوه من تعليل، وقد طالبنا بعض مخالفينا في وضوح الأدلة وظهور العلة فبفضل منك أن توضح لنا جميع ذلك مأجورا إن شاء الله.

الجواب:

إن الدليل على ذلك بحمد الله واضح والحق على ظهور صوابه لائح وذلك أن الأدلة التي تستنبط منها الأحكام والبراهين وتثبت منها العلل والقوانين وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس عند بعض وهو الصحيح وأنا إن شاء الله تعالى أبين لك وجه نجاسته من جميع هذه الأصول فنقول:

أما الكتاب فقوله تعالى: { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس } (¬1) لا يقال أن الضمير عائد إلى الخنزير لأنه أقرب مذكور كما هو القانون لأنا نقول أن ذلك القانون إنما يجب إتباعه فيما لم يدل عليه دليل على تركه فأما إذا دل تركه على دليل وجب إتباع الدليل وترك القانون كما هو معلوم عندهم، حيث قالوا: لا يعدل عن الأصل إلا بدليل، نعم ودليل العدول هنا ظاهر وذلك أنه تعالى علل تحريم الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير بأن الجميع رجس أي نجس وإلا للزم طهارة الميتة مع أنه لم يوجد نص نجاستها بعينها وقد أطبقت الأمة على نجاستها ولا يصح العدول عن الظاهر إلا بدليل وإنما قلنا الظاهر ذلك لتعليل تحريم الخنزير بالنجاسة وهو معطوف عليها.

¬__________

(¬1) الأنعام: 145.

Page 1

فإن قيل إنما ذكرته لا يصح على القانون النحوي فإن الضمير قوله تعالى: { فإنه رجس } مفرد ولا يعود إلا إلى مفرد وإذا كان عائدا إلى الثلاثة للزم مطابقة الضمير لما عاد مفرد ولا يعود إلا إلى مفرد وإذا كان عائدا إلى الثلاثة للزم مطابقة الضمير لما عاد إليه فيجيب أن يؤتى به ضمير الجماعة كما هو القاعدة.

قلنا: إنما أفرد ذلك الضمير باعتبار إعادته إلى المذكور أو باعتبار أن الضمير جعل كناية عن تلك الثلاثة جميعها وقد يكنى بالضمير المفرد عن الأشياء المتعددة كما صرح به الزمخشري وغيره وأنشدوا عليه قول رؤبه:

فيها خطوط سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق

قال الزمخشري: قال أبو عبيدة: قلت لرؤبه إن أردت الخطوط فقل كأنها وإن أردت السواد والبلق فقل كأنهما، فقال: أردت كأن ذلك ويلك انتهى بمعناه وأراد بقوله أردت كأن ذلك الكناية عن جميع ما ذكره في البيت ورؤبه هذا عربي يحتج بكلامه، وأبو عبيدة هذا أحد أئمة العربية ولم يعب عليه.

وإن قيل لا يلتزم من وصف الدم بأنه رجس وجود نجاسته لأن الرب تعالى قد وصف الخمر بأنه رجس من عمل الشيطان وقد علل تحريمها بذلك فلم يجتمع على نجاستها.

قلنا: إنما اختلف في نجاسة الخمر مع وصفها بالرجس لاحتمال وقع في الآية، لا يوجد ذلك الاحتمال في آية الدم وهو أنه نجاسة الثلاثة غير محسوسة وتعذر وقوع حقيقة النجاسة فيها عدل في الآية عن الحقيقة إلى المجاز، فقيل إنما وصفت الثلاث بالرجس مبالغة في خستها فاحتمل الاختلاف في الخمر فقيل هل هي نجسة لاحتمال وجود حقيقة النجاسة فيها بخلاف الثلاث أولا وإنما وصفت بالرجس لخستها كالثلاث وهو الصحيح عندي قولان فظهر أن وصف الخمر بالرجس ليس كوصف الدم به، وأما علة تحريمها فهي لا لأنها نجسة بل لإسكارها كما هو معلوم.

وأيضا فالدم معطوف على الميتة والميتة نجسة بالإجماع وحكم المعطوف هنا حكم المعطوف عليه باتفاق.

Page 2

وأما السنة فما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: « الوضوء من كل دم سائل » ذكره الشعراني في كشف الغمة ولا يقال لا يلزم من وجوب الوضوء من الشيء ثبوت نجاسة ذلك الشيء فإنه قد ثبت وجوب الوضوء من أشياء غير النجاسة كالغيبة والتكلم بالفحش وسائر المعاصي لأنا نقول: إن الأشياء التي توجب الوضوء نوعان: أحدهما الخبث وهو الخارج من الإنسان سواء من السبيلين أو من الحلقوم أو من سائر الجسد لجرح وقع فيه أو غير ذلك وهذا النوع نجس باتفاق، لا يقال أن الريح الخارجة من الدبر ليست بنجسة مع أنها توجب الوضوء ولا توجب الاستنجاء لأنا نقول: لا نسلم أنها ليس بنجسة بل نجاستها متق عليها وإنما لم يجب الاستنجاء منها للطافة جسمها وعدم تأثيرها فيما تباشر وقد اختلف الفقهاء في نجاسة الموضع الرطب من البدن إذا باشرته هل هي مؤثرة فيه لرطوبته فينجس بنجاستها أو لا قولان حكاهما البدر أبو ستة في حواشي الوضع.

والنوع الثاني مما يوجب الوضوء: الحدث كالمعاصي ومنه الغيبة والفحش وغيرهما ولا يخفى أن الدم من أول النوعين وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه غسل الدم عن وجهه ونص الحديث على ما ذكره الشعراني قال علي: فلما رمي النبي - صلى الله عليه وسلم - في وقعة أحد وشج وجهه أتيته بماء في دورقتي من المهراس فلما أراد أن يشرب منه وجد له ريحا فلم يشرب منه ولكن تمضمض وغسل عن وجهه الدم وصب منه على رأسه، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن تلطيخ رأس الصبي بالدم وأمر أن يوضع مكانه خلوق، وقد ثبت بالسنة استقذار الدم وغسله، والأمر بالوضوء منه، فإن قيل لا دليل في غسله - صلى الله عليه وسلم - الدم عن وجهه على نجاسة الدم لأن من فعله - صلى الله عليه وسلم - ما هو واجب وما هو غير واجب، وعند الاحتمال يسقط الاحتجاج له، لا نسلم عدم الدلالة على نجاسته كيف! وأفعاله - صلى الله عليه وسلم - على وجوه:

Page 3

أحدها: ما كان على وجه الجبلة أي الخلقه يعني أنه خلق غير مستغنى عنها كالأكل والشرب والنوم وغير ذلك وهذا الوجه من فعله عليه الصلاة والسلام مباح له ولغيره اتفاقا.

الوجه الثاني: ما خص به عليه الصلاة والسلام من بين سائر أمته كتزويج ما فوق أربع وكالخلوة بالأجنبيات إلى غير ذلك، وهذا الوجه لا يصح لأحد أن يقتدي به.

الوجه الثالث: من أفعاله عليه الصلاة والسلام ما كان بيانا لنص كفعله الصلاة والمناسك الحجية بقرينة قوله - صلى الله عليه وسلم - : «خذو عني مناسككم»، و«صلوا كما رأيتموني أصلي» وما عدا هذه الثلاثة الأوجه من أفعاله عليه الصلاة والسلام فنوعان:

أحدهما: ما علمت صفته من وجوب أو ندب أو إباحة فهو على ما علم.

والنوع الثاني: ما لم تعلم صفته، وقد اختلف فيه هل يحمل على الوجوب أو على الندب أو على الإباحة إلى غير ذلك مما قيل فيه، فانظر من أي الوجوه غسل - صلى الله عليه وسلم - للدم ولا أظنك تجده إلا من الوجه الذي علمت صفة وجوبه أو من الوجه الذي ورد بيانا للنص بقرينة قوله تعالى: { فإنه رجس } وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «الوضوء من كل دم سائل» لا يقال ليس كل ما وجب غسله ثبتت نجاسته فإن بدن الجنب والحائض والنفساء يجب غسله وإن لم تصبه النجاسة مع أنه طاهر لقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة وقد أراد أن يصافحه - صلى الله عليه وسلم - فقال أبي هريرة: إني جنب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أما المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا» ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: «ليست الحيضة في يدك» حين قال لها ناوليني الخمرة من المسجد، قالت: وكان يدني إلي رأسه الشريف وأنا في حجرتي فأرجله وأغسله وأنا حائض وكان يتكأ في حجري فيقرأ القرآن وقال لي: «ناوليني الخمرة من المسجد» فقلت: أنا حائض، قال: إن حيضتك ليست في يدك » فقمت فناولته.

Page 4

لأنا نقول أن بدن هؤلاء الثلاثة إنما وجب غسله بالتعبد المنصوص عليه وهو خصوص مستثنى من قاعدة كلية فلا تنقض به كما هو معلوم عند الأصولين وأما الإجماع فقد حكاه غير واحد وبيانه أن الصحابة وغيرهم من محقي الأمة ومجتهديهم مطبقون على نجاسة الدم المسفوح ولو قال بذلك أحد منهم لنقل عنه ولا اعتبار بمن شذ عن إجماعهم من مخالفيهم فإنه لا يعتبر في صحة انعقاد الإجماع موافقة لمخالف بالدين على المختار كما صرح به البدر الشماخي رحمه الله، وأيضا فإن هذا القائل بطهارة هذا الدم إنما انفرد به بعد انعقاد الإجماع على نجاسته فلا يعتد بقوله، وكفى في مستند الإجماع ما تقدم من النصوص القرآنية والنبوية.

وأما القياس فلا سبيل للصيرورة إليه مع ورود النص، لكنا نفرض للمسألة صورة نعتبر فيها عدم ورود النص أصلا حتى يصح لنا القياس فيها فنقول: قد ثبتت نجاسة دم الحيض بالكتاب والسنة والإجماع فأما الكتاب فقوله تعالى: { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن } (¬1) إلى آخر الآية فدلت هذه الآية على نجاسة دم الحيض ووجه الدلالة أنه تعالى سم الخروج عنه طهرا والتنظيف منه تطهرا.

¬__________

(¬1) البقرة: 222.

Page 5

وأما السنة فما روي عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن الحيض يصيب الثوب فقال: «حثيه ثم أقرصيه بالماء وانضحي ما لم تري وصلي فيه» وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كثيرا ما كان - صلى الله عليه وسلم - يخرج وعليه الملاءة التي يتغطى بها هو وأهله فيجد فيها لمعة من دم الحيض فيقبض عليها مع ما يليها ثم يصرها ويرسلها إلينا فيقول أغسلوها وحففوها ثم أرسلو بها إلي فنفعل بها ذلك، وعنها أيضا أنها قالت: لقد كنت أحيض عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث حيض جميعا لا أغسل لي ثوبا، تعني أن لم يصبه شيء من دم، وكان إذا أصابه شيء غسل مكانه لم يعده إلى غيره ثم صلى فيه الحديث وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن دم الحيض يكون في الثوب فقال:«حكيه بضلع أو أغسليه بما وسدر ».

وأما الإجماع فقد حكاه صاحب القواعد رحمه الله تعالى وهو ظاهر جلي.

كذلك دم الاستحاضة فقد ورد النص في تنجيسه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «دم الاستحاضة دم عرق نجس » رواه صاحب الإيضاح رحمه الله تعال، وإذا ثبتت نجاسة الدمين -أعني دم الحيض ودم الاستحاضة-كان ثبوت نجاسة الدم المسفوح أولى لورود النص بتحريمه فهو من القياس أولى وذلك أن تقيس الذي هو أولى بالحكم على ما هو دونه ويسمى هذا القياس باعتبار آخر القياس الجلي وهو : ما علم فيه نفي الفارق بين الفرع والأصل ويسمى باعتبار آخر حيضا القياس في المعنى وهو الجمع بنفي الوصف الفارق.

هذا والصفة الجامعة بين الثلاثة الدماء الاستقذار لأن كل واحد منها مستقذر بالطبع فأما دم الحيض ودم الاستحاضة فلا خفاء في استقذارهما وأما استقذار الدم المسفوح فهو ما أشعر به نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن تلطيخ رأس الصبي به وأمره أن يوضع مكانه خلوق.

Page 6

وفي بيان الشرع أن الصفة الجامعة للدماء الموجبة لنجاستها هو كون كل منها أذى أخذا بظاهر قوله تعالى: { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى } ...الآية.

فإن قيل: إنما ثبتت نجاسة دم الحيض ودم الاستحاضة لنجاسة مخرجهما لا لصفة في ذاتهما.

قلنا: لا نسلم ذلك لأن هذا مناقض لظاهر الكتاب وهو قوله تعالى: { قل هو أذى } إلى آخر الآية ولظاهر الحديث وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : «دم الاستحاضة دم عرق نجس» فعلل نجاسته بكونه دم عرق لا بغيره فإن قيل أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يعلم حجرها والدم من تلك الأشياء وهو أنواع كله لا يخفى وورود النص بنجاسة بعضها لا يوجب نجاسة الكل بل يبقى ما عدا ذلك البعض على أصله مع وجود العلة في الكل لأن تلك الخصوصية إنما تثبت في الشيء مع عدم ظهور العلة التي أوجبت الحكم فيه فأما إذا ظهرت علته وجب أن يحمل عليه ما يوافقه كله صرح به الأصوليون.

هذا ما ظهر لي في هذا المقام والحمد لله على حين الختام والصلاة والسلام على سيد الأنام وعلى آله وصحبه الكرام.

من الفقير إلى الله عبدالله بن حميد السالمي.

وهذا رد على من اعترض في الرسالة المتقدمة (¬1)

بسم الله الرحمن الرحيم

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، نحمدك يا من طهر قلوب أوليائه من رجس الشيطان وأردهم موارد العرفان في حياض البيان من معاني القرآن ورزقهم التمسك بحبل السنة ولم يجعلهم كمن استهوته الأهواء فتشبه بذي جنة.

ونصلي ونسلم على مبين الحلال والحرام ومبلغ ما أرسل به وعلى آله وصحبه وحزبه وعلى من اقتفى أثرهم والتزم حبهم ونصرهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

¬__________

(¬1) هذا الرد من حمد بن راشد بن سالم الراسبي(ق14) متذهب بمذهب الحشوية وله مناظرات بينه وبين نور الدين السالمي رحمه الله.

Page 7

فقد وقفت بعدما كتبت رسالة في الأدلة على نجاسة الدم المسفوح على كلام ملفق مزيف وعن جادة الحق وطريق المناظرة محرف معترضا فيه على تلك الرسالة المذكورة بأقاويل في الباطل مشهورة وكان حقها أن يضرب صفحا عن الاعتناء بمثلها لأن شواهدها ناطقة ببطلانها، ولكن لما رأيت كثيرا من الضعفاء قد صار ذلك الباطل عندهم في حيز الخفا وخفت عليهم الاغترار بتلبيسها والاعتناء بباطل تأسيسها صرفت الهمة في الجواب عليها لينظر الواقف البطلان لديها ومن الله أستمد التوفيق إلى أقوم الطريق { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } (¬1)

مقدمة

¬__________

(¬1) الشعراء: 227.

Page 8

اعلم أن ذلك المزخرف قد طول كلامه بما ليس هو من المقصود أصلا فذكر الكلام على نجاسة الغائط والبول وأطال فيها القول ونجاستهما متفق عليها معنا ومعهم فأي حاجة دعت إلى ذلك والإتيان به هناك ثم أعقبه بالكلام عن نجاسة بول الأنعام والروثة ولعاب الكلب ونجاسة المني والوذي مع أنهما ليست من غرضنا ولا مناسبة بينهما وبين ما نحن فيه إلا نفس النجاسة، فإن كان غرضه التكثير لخطابه والتكبير لحجم كتابه فقل له إن أفراد أنواع النجاسات كثيرة فهلا جئت بها في هذه القراطيس اليسيرة حتى تكون كراسة كبيرة ثم ذكر في خلال ذلك نقلا على تفسير الآية المستدل بها هناك من فتح البيان (¬1) في مقاصد القرآن بما لا يليق بالمقصود وهو عند العارفين بالمناظرة من جملة المردود ثم أتى بأبيات من ملحة الإعراب وأوردها عليها من شرحها (تحفة الأحباب) ما يقضي بجهالته عند أولي الألباب فإن كان هذا الملفق قد أراد أن يطلعنا على ما هنالك من المعاني فهلا نقل لنا من المعني وحواشي الصبان فإنها أعلى الكتب في هذا الشأن ونقل من خلال العقول أنه لا يفهم ما يقول ولو لم يكن في كلامه إلا ما أشرنا إليه لكفى به شاهدا على الجهالة لديه كيف! ومع ذلك من اضطراب أقواله وتعسفه في مجاله ما رثى له عدوه رحمة لحاله كما ستقف علليه إن شاء الله تعالى.

بداية الرد (¬2)

وها نحن نرسم المواضع التي يحتاج التنبيه عليها مما يليق بالمقصود ونضرب صفحا عما عداها لأنها ليست من المنهل المورود ولأن استقصاء الكلام في هذا المقام مما يفوت الوقت بما لا حاجة إليه.

قوله: في نجاسة الغائط والبول وقد جاءت الأدلة الصحيحة المفيدة للقطع بذلك بل نجاستها من باب الضرورة الدينية كما لا يخفى على من له اشتغال بالأدلة الشرعية وبما كان عليه الأمر في عصر النبوة.

¬__________

(¬1) ل صديق بن حسن القنوج البخاري، ط1 1301ه

Page 9

(¬2) رد أقول: انظر في اضطراب هذه الكلمات حيث أثبت أولا نجاستها بالأدلة القطعية ثم ضرب عليه وصفح عنه وأثبتها بالضرورة الدينية ثم أعقبها بقوله كما لا يخفى على من له اشتغال بالأدلة الشرعية! سلمنا أن الضرورة الدينية داخلة تحت الأدلة القطعية فنحمل كلامه على أحسن وجوهه هنالك فنقول أنه جعل المضروب عليه كالمسكوت عنه لكن نقض الضرورة بقوله كما لا يخفى على من له اشتغال بالأدلة...الخ، فإن الضرورة الدينية لا تخفى على أولئك وغيرهم ممن تعبد بها فإن أختص عدم خفائها بمن له اشتغال بذلك فهو من النظري لا من الضروري.

قوله: وحديث عمار قد أطبق على من رواه على أنه من الضعف بمكان الخ.

أقول: يتأمل في كلامه هذا فإنه لم يذكر فيما مضى رواية من طريق عمار فإن أراد حديثا غير مذكور هنا كان عليه أن يبينه بقرينة تدل عليه لأن عمارا صحابي محدث له من الروايات عدة أحاديث.

قوله: والأول مجمع على تركه والثاني مجمع على ضعفه.

أقول: ينظر في مرجع هذا الضمير من كلامه فإن أعاده إلى الراوي رده معنى الترك وإن أعاده إلى متكلم مقدر فمسلم ولكن لا يرتكب ذلك إلا لضرورة لأن الأصل عدمه وأي ضرورة في النثر.

قوله: فلا تنهض بمثله حجة على التعميم.

أقول: يتأمل في كلامه هنا فإنه إن كان عدم الاحتجاج بالخبر لعله في الراوي كما أسلفه فلا تنهض به حجة على التعميم ولا التخصيص وإن كان لعلة في متن الخبر فعليه أن يبينها وبالجملة فآخر كلامه مناقض أوله اللهم إلا أن يريد بالتعميم ما عدا الراوي من الناس وعليه فهو خفي قصرت عنه إشارته فضلا عن عبارته.

قوله: فالحق الحقيق بالقبول الحكم بنجاسة ما ثبتت نجاسته بالضرورة الدينية وهو بول الأذى وعائطه.

أقول: يتأمل في كلامه هنا فإنه مشعر مقصر حقية القبول على ما ثبت بالضرورة فيفهم عدم حقية القبول لما ثبت بالنظر والاستدلال وفيه ما لا يخفى من مخالفة جميع.

Page 10

قوله: وأما ما عداهما فإن ورد فيه ما يدل على نجاسته كالروثة وجب الحكم بذلك من دون إلحاق.

أقول: هذا مناقض لكلامه هنالك فإن صرح هنالك بأن الحق الحقيق بالقبول الحكم بنجاسة ما ثبتت نجاسته بالضرورة.. الخ، وذكر هنا أنعه يجب الحكم بما ورد في نجاسته دليل ولو كان بغير ضرورة مثلا واستدال عليه بحديث الروثة الذي لم يشتهر ولم يستفض وإنما هو خبر واحد فما أبعده من الضرورة وقد أوجب الحكم به فإن كان إيجاب الخكم به من غير قبول له فهذا شيء لا يعرفه عاقل وإن كان الإيجاب بعد القبول فقد أثبتت لخبر الأحادي درجة فوق الضرورة ولا مفر من أحدهما.

قوله: وإن لم يرد فالبراءة الأصلية كافية في نفي التعبد يكون الشيء نجسا من دون دليل.

أقول: سلمنا ذلك لكن الدليل بحمد الله تعالى واضح والحق على صوابه لائح وقد أثبتناه في تلك الرسالة ولم يعارضه الخصم بدليل يسمع وسنزيد على ذلك ما يسره الله لنا في خاتمة هذا الاعتراض إن شاء الله تعالى فانتظره.

قوله: والبراءة الأصلية قاضية بأنه لا تكليف بالمحتمل حتى يثبت ثبوتا ينقله عن ذلك.

أقول: هذا أدهى وأمر وأقبح وأشر من جميع ما مر، فإنه قد نفى التكليف بالمحتمل فأي آية وأي سنة لا تقبل الاحتمال ولا التأويل إلا ما كان محكما وهو قليل بالنظر إلى غيره فيلزمه نفي الأحكام الفرعية مطلقا لأنها إنما ثبتت باستنباط العلماء لها من أدلتها المحتملة ولذا تراهم لا يخطئ بعضهم بعضا في التأويل لأن كل منهم متعبد فيها بما هو الراجح عنده وقوله حتى يثبت ثبوتا ينقله عن ذلك لا يزيده من الحق إلا بعدا لأن الإشارة إما أن تكون للاحتمال فيكون آخره مؤكدا لما قبله وإما لغيره ولا دليل عليه وأي ثبوت ينقل المحتمل عن احتماله اللهم أنا لا ندريه إلا أن يكون مجملا فيفسر وهو مختص بزمان الوحي وأما الآن فقد أنسد بابه فكل محتمل فهو باق على احتماله إلى يوم الدين.

Page 11

قوله: وليس من أثبت الأحكام المنسوبة إلى الشرع بدون دليل بأقل أثما ممن بطل ما قد ثبت دليله من الأحكام فالكل إما من التقول على الله بما لم يقل أو من إبطال ما قد شرعه الله لعباده بلا حجة.

أقول: هذا عين الصواب وغاية المراد عند ذوي الألباب لو ثبت عليه قائله ولقد أثبتنا ما أثبتناه من نجاسة الدم مسفوح بأدلة قرآنية ونبوية واجتماعية وقياسية لا تكاد تخفي على من كان له أدنى إلمام بعلم الأصول وهل تخفى الشمس في رابعة النهار إلا على من كان أعمى { ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا } (¬1) وقد عرفت بأن الخصم هو الذي أبطل ما ثبت بالدليل فحق عليه القول اللهم إلا إن ينفي الاستدلال بجميع المحتملات كما يشعر به ظاهر كلامه فيتنصل عن عقله ولا جواب له.

قوله: وبالجملة فالتصريح منه - صلى الله عليه وسلم - بالقول بما هو الواجب في ذلك هو الأولى بالإتباع لكونه كلاما مع آمته.

أقول: هذا التعليل بترجيح القول على الفعل لا فائدة فيه لأن علله بكونه كلاما مع أمته فجوابه كذلك الفعل أيضا فعل مع أمته لأنه لم ينقل عنه بأنه يخلو متى ما أراد أن يفعل فعلا مختصا به فهلا علل بما علل به الأصوليون بكون الفعل يحتمل اختصاصه به.

قوله: وأقول لك ثانيا يا أخي أحاديث التخصيص هنا صحيحة لا شك فيها ولا ريب فما الذي دعا هؤلاء إلى الوقوع في مضيق التعسف ..الخ.

أقول: لا أدري ما أراد بقوله أحاديث التخصيص هنا صحيحة ..الخ وأظنه ل يدري ما معنى كلامه أيضا لأنه إن أراد بأحاديث التخصيص ما أسفله من أحاديث التخفيف فلا معنى لإضافته إلى التخصيص وأيضا فالمشار إليهم وهو القائلون بتنجيس الدم المسفوح لا يمنعون التخفيف فيما ذكره فظهر أن تشنيعه إنما نشأ عن محض جهل واستيلاء حمق أعاذنا الله منهما.

¬__________

(¬1) الإسراء:72.

Page 12

قوله: ثم هو إهدار لكلام من أوتي جوامع الكلم وكان أفصح العرب مع ما يلحق كلام غيره ممن هو من العي بمنزلة توقعه في الكلام القاصر عن رتبة الفصاحة والبلاغة.

أقول: أولا: لا محل للعطف بثم هنا.

وثانيا: أنه قد ادعى أن في كلامهم إهدار لكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو وزر عليهم فأي حديث هدر بتأويلهم مع أنهم يقبلون الحق ممن جاء به.

وثالثا: إن كلامه هذا يناقض بعضه بعضا فإنه ادعى أولا الإهدار وهو محض البطلان وثانيا التأويل للحديث حتى يجعله في منزلة لا يرضاها عي ثم لا يخفي ما فيه من التعقيد وقصور العبارة عن المراد.

قوله: وليت شعري أن المشغوفين بمحبة مذاهب الأسلاف جعلوه كأسلافهم فسلكوا فيما بين كلامه وكلامهم طريق الإنصات ولكنهم في مواطن كثيرة يجعلون الحض لأسلافهم فيردون كلامه - صلى الله عليه وسلم - إلى كلامهم ...الخ.

أقول: انظر أولا في ركاكة هذه العبارة وبعد موقعها من البلاغة فضلا عن الفصاحة وثانيا في توجيه لغزة وليت شعري من قصد به؟ فإنه إن أراد أهل الاستقامة رضوان الله عليهم فليسوا بهذه الصفة ولقد افترى عليهم وإن أراد غيرهم فالله أعلم بما هم عليه من الصفات لكن قل لهذا القائل هل أنت أنصفت من نفسك وتركت التعصب للأسف فإن كنت بهذه الصفة فهل نجعل أمامنا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المجتهدين من الأمة وإن أنكرت الإجماع كما يشير إليه كلامك فنجعل الإمام الكتاب والسنة فنجعل ما أحله الله منهما ونحرم ما حرمه فإن أجبتنا لذلك وتركت التمرد فقد أنصفت من نفسك وإلا فأعلم أنك أنت المتصف بهذه الصفة أعاذنا الله والمسلمين منها.

قوله: فإن أنكرت هذا فهاتي أنبئ لي ما الذي اقتضى هذه التأويلات المتعسفة ورد أحاديث التخصيص الصحيحة والسليمة ...الخ.

Page 13

أقول: لا أدري ما التأويلات التي أرادها وكان عليه أن يبينها إن كانت معلومة عنده وإلا فهو افتراء عليهم ولا يخفي ما في قوله في فهاتي أنبئ لي من الفهامة التي لا يقبلها العي فلا تشتغل بها ودعواه عليهم بردهم الأحاديث المخصصة الصحيحة ليست بمسموعة إن أراد أهل الاستقامة لأنهم ليسوا بهذه الصفة وغنما هو محض افتراء عليهم حاشاهم من ذلك وإن أراد غيرهم فالله أعلم.

قوله: النوع الثاني من النجاسات لعاب كلب ..الخ.

أقول: أولا إنه لا محل لقوله: النوع الثاني الخ إذ لا نوع أولا يقابله لأنه إن أراد به مقابلا للمتفق على نجاسته فهذا قد حكي الخلاف فيه وإن أراد به مقابلا للأنواع المختلف في نجاستها فقد ذكر منها نوعين: بول ما يؤكل لحمه والروثة، وثانيا في تنكير كلب أي مقام يقتضيه ولأي نكته نكر، وثالثا لا نشتغل بالكلام على نجاسة الكلب ولعاله لأنه ليس مقصودنا وقد قدمت لك التنبيه على ذلك.

قوله: وليس من شرط التعبد الاطلاع على علل الأحكام التي تعبدنا الله بها على ما هو الراجح أه.

أقول: لا معنى لقوله على ما هو الراجح لأنه لم يقل أحد بشرطية الإطلاع على علل الأحكام في التعبد حتى يجعله قولا مرجوحا وإلا فيقال لهذا القائل بتلك الشرطية ما العلة التي أوجبت الصلاة والصيام والحج فإن اطلع عليها وإلا سقط عنه التعبد بها مع إجماعهم على عدم تعليلها ولكن لعله لا يفهم ما يقول وأنه لكذلك.

قوله: فلا يحل تحويل الشرع المتقرر بأقوال علماء الأمة سواء كان القول المخالف منسوبا إلى جميعهم أو إلى بعض... اه.

Page 14

أقول: سلمنا أنه لا يحل تحويل الشرع المتقرر الخ، لكنا لا نسلم أن الأمة تجتمع على ضلال وإنما هو فرض وتقدير أن لو وقع مع استحالة الوقوع شرعا لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تجتمع أمتي على ضلال» وهو حديث مشهور حتى أن بعضهم كفر من أنكره فإذا عرفت استحالة اجتماعهم على الضلال شرعا وجب عليك أن تعرف أن ما اجتمعوا عليه حق فإجماعهم حجة قطعية ومنكرها كافر.

قوله: وقد حفظ الله السنة بأقوال جماعة من علماء الأمة كما هو معروف في كتب الخلاف والفقه وشروح السنة اه.

أقول: أولا: أي مناسبة بين هذا الكلام والذي قبله وكأنه أراد أن أقوال أولئك الجماعة هو الشرع المتقرر الذي لا يجوز لعلماء الأمة خلافه ولا إشكال في سقوطه فإن الشرع المتقرر في عهده - صلى الله عليه وسلم - مشتهر عند الأمة اشتهار نار على علم.

وثانيا: صرح بأن الحفظ للسنة وقع بأقوال جماعة فجعل أقوالهم هي سبب الحفظ للسنة وانظر ما الذي أراد بهذه الأقوال والظاهر أن الأقوال فتاويهم وعلى هذا فيكون قد وقع فيما فر منه حيث جعل تلك الجماعة هي حفظ السنة فقصر نظره عليها وليته جاوز نظره إلى نفس السنة فيطلع على إصابة المصيب.

وثالثا: ما معنى قوله كتب الخلاف والفقه وشروح السنة فإنه إن أراد بكتب الخلاف كتب على الجدل كما هو معروف به فلا محل لمعرفة حفظ أقوال هؤلاء الجماعة للسنة في ذلك الفن، اللهم إلا أن يريد أن ذلك العلم هو الناطق بتصويب المصيب وتخطئة المضل فإن أراد ذلك فمسلم ولكن لا نسلم أنه ناطق بتصويب أولئك الجماعة حتى ينبني عليه ما ادعاه وكذلك يقال فيما بعده.

قوله: ومن أغرب ما يراه من ألهمه الله رشده وحبب إليه الإنصات ما يقع في كثير من المواطن من جماعة من ذلك عن الشريعة بمعزل والميل عن الحكم الثابت بشرع أوضح من شمس النهار من دون سبب يقتضي ذلك كما فيما نحن بصدده وفيما سلف من بول الصبي وأشباه هذا لا تحصى...الخ.

Page 15

أقول: إن أراد بهؤلاء الجماعة أهل الاستقامة رضوان الله عليهم كما يدل عليه كلامه فليسوا بهذه الصفة حاشاهم من ذلك ولقد افترى عليهم كذبا في جميع ما نسبه إليهم هاهنا ولقد ادعى أولا أنه لم يرد في الدم شرع وذكر هنا أنهم مالوا عن الحكم بشرع أوضح من شمس رابعة النهار فأي مناسبة بين كلاميه إلا محض التناقض لكن إنما عدلنا عن تلك البراءة بأدلة ستعرفها في الخاتمة ولا أدري ما أراد بقوله (وفيما سلف من بول الصبي فإنهم قائلون بما أسلفه أيضا) وقوله: (وأشباه هذا كثير نعم هم يثبتون الأحكام بالأدلة) فإن كان هذا المخلط قد عد ذلك الإثبات من زلاتهم فالله أعلم، وإلا فأي حكم أثبتوه من تلقاء أنفسهم حاشاهم من ذلك ولولا ما كسانيه ربي من الحياء والعفة ببركة اقتفائهم لأوقفت هذا المخلط على جميع أغلوطاته ولكشفت عن أستارها حتى ينظر عوام الناس إلى عوراته ولكني كما قال الشاعر:

واغفر عوراء الكريم ادخاره واعرض عن شتم اللئيم تكريما

قوله: وأما سائر الدماء يعني ما عدا دم الحيض فالأدلة فيها مختلفة مضطربة والبراءة الأصلية مصتصحبه حتى يأتي الدليل الخالص عن المعارضة الراجحة والمساوية ...اه.

أقول: وقد قام الدليل الخالص عن المعارضة أصلا فضلا عن كونه خالصا من راجحها ومساويها وبما أثبتناه من الأدلة في تلك الرسالة كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد وقد خلصت بحمد الله من شائبة المعارضة وما عورضت به فهم أوهن من بيت العنكبوت كما ستراه إن شاء الله لكنا لا نقصر على ما قدمنا هنالك بل نزيد عليه من الأدلة إن شاء الله تعالى ما يلقم الخصم الحجر فنجعله خاتمة لهذا فانتظره.

Page 16

قوله: ولو قام الدليل على رجوع الضمير في قوله تعالى { فإنه رجس } (¬1) إلى جميع ما تقدم في الآية الكريمة من الميتة والدم ولحم الخنزير لكان ذلك مفيدا لنجاسة الدم المسفوح والميتة لكنه لم يرد ما يفيد ذلك بل النزاع كائن في رجوعه إلى الكل أو إلى الأقرب ما يفيد ذلك بل النزاع كائن في رجوعه إلى الكل أو إلى الأقرب والظاهر رجوعه إلى الأقرب وهو لحم الخنزير لإفراد الضمير الخ.

¬__________

Page 17

(¬1) الأنعام: 145 أقول: كما أن الظاهر من إفراد الضمير عودة إلى لحم الخنزير وذلك أن المستثنى من شيء يدخل تحته لا بد له صفة يختص بها عن المستثنى منه فالميتة وما بعدها مستثنى من جنس المطعوم ألا ترى أنك تقول: لا تأكل شيئا إلا خبزا أو لحما أو تمرا فإنه جيد مثلا كان التعليل راجعا لجميع المستثنيات وهو الظاهر فيه وإن كان الظاهر في إفراد الضمير عودة إلى الأقرب فتنازعه ظاهران أحدهما يطلب الجميع وهو التعليل والآخر يطلب القريب وهو إفراد الضمير فرجحنا الأول للتصريح بالتعليل فيه فإنا لو رجحنا الثاني مثلا لزم طلب العلة في تحريم الميتة والدم لا يقال ليس من شرط الاطلاع على علل الأحكام لأنا نقول سلمنا عدم الشرطية ذلك في التعبد ولا قائل بخلافه فيما نعلمه لكن الرب تعالى بمنه وكرمه جعل للأحكام عللا تدل عليها وأمر أهل العلم أن يردوا ما أشبهها إليها بإشارة قوله: { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } (¬1) وأي استنباط يكون بغير دليل وأي دليل هنالك إلا تعليل الأحكام لأنا لو قلنا بالدليل الصريح مثلا لسقط معنى الاستنباط فظهر بحمد الله أن الأصل في الأحكام تعليلها فيجب طلب ذلك الأصل للمستنبط ولا يقدح في هذا ما ورد من الأحكام غير معلل لأن قواعد الشرع إما عبادة بدنية وإما غيرها فالعبادة البدنية لا يجدي فيها التعليل لعدم انطباقها للأعراض النفعية العاجلة وما عداها من الضرورات والحاجيات والتحسينات فيعلل بجزئياتها وكلياتها كما هو معلوم عند أربابه.

قوله:ولهذا جزمنا هنا بنجاسة لحم الخنزير دون الميتة والدم الذي ليس بدم حيض ولا سيما وقد ورد في الميتة ما يفيد أنه لا يحرم منها إلا أكلها كما ثبت في الصحيح بلفظ «إنما حرم من الميتة أكلها»...أه.

¬__________

(¬1) النساء: 83.

Page 18

أقول: في كلامه هذا تصريح بعدم نجاسة الدم والميتة معا وقد كانت بدعة واحدة فهي الآن بدعتان وقد خرق الإجماع في كليهما أعاذنا الله والمسلمين من ذلك، فأما الدم فقد ذكرنا أدلة نجاسته وسنزيد عليها إن شاء الله وأما الميتة فلم يخطر ببالنا أن أحد يقول بطهارتها حتى وقفنا على كلامه هذا المبتدع هنا فوجب علينا أن نرد بدعته بما يسر الله لنا من الأدلة لحديث «إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه » فنقول: اعلم أن الأمة قد أجمعت على نجاسة الميتة لا خلاف لأحد في ذلك حتى ظهر هذا المبتدع فخرق ذلك الإجماع مع ما فيه من ضعف البصيرة وانغماسه في لجج الحيرة ولولا ما في ذلك الحديث من الوعيد على أن على العالم أن لا يظهر علمه عند ظهور البدع لما كان لمثله أن يشتغل بشأنه كيف! والأحاديث في نجاستها مشهورة منها ما ثبت من طريق جابر بن عبدالله قال: جاء ناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن جلوس فقالوا: يا رسول الله إن سفينة لنا انكسرت وإنا وجدنا ناقة سمينة ميتة فأردنا أن ندهن سفينتنا وإنما هي عود على الماء فقال: «لا تنتفعوا بشيء من الميتة».

Page 19

وقال عبدالله بن عكيم: قرأ علينا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأرض جهينة وأنا يومئذ غلام شاب يقول فيه: لا تستمتعوا من الميتة بإيهاب ولا عصب وكان قبل موته - صلى الله عليه وسلم - بشهرين، ومن طريق أبي هريرة قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الفأرة تموت في السمن الذائب، فقال:«استصبحوا به» أو قال: «انتفعوا به» وسئل الزهري عن الدابة تموت في الزيت والسمن والودك وهو جامد أو غير جامد الفأرة أو غيرها فقال: بلغنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:«إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوا سمنكم وإن كان مائعا فأريقوه ولا تأكلوه»، قال قطب الأئمة رضوان الله تعالى عليه: والحديث شامل لما بعضه جامد وبعضه مائع فيلقى المائع ويؤكل الجامد، ومعنى أريقوه أنه نجس لا يؤكل كما قابل الجامد المأكول وليس المراد أن لا ينتفع به، وعن أبي سعيد الخدري موقوف في الدجاجة إذا ماتت في البئر ينزح منها أربعون دلوا، وعن أنس موقوفا في الفأرة إذا ماتت من ساعتها ينزح منها عشرون دلوا، وروى قطب الأئمة رضوان الله تعالى عليه أنه وقع زنجي في بئر زمزم فمات فأمرهم ابن عباس أن يخرجوه وأن ينزحوها فغلبتهم عين ماء جاءت من الر كن فأمر بها فدست فيها القباطي والمطارف حتى نزحوها ولما فتحوها انفجرت عليهم.

ومن طريق ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بشاة مطروحة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «ألا أخذوا أيهابها فدبغوه » فانتفعوا به، ومن طريقه أيضا قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا دبغ الإيهاب فقد طهر ».

Page 20