فلا اختلاف الكيف وحده ولا اختلاف الكم وحده يعنيه، فكلاهما من شأن العلماء؛ الأول منهما يختص به علماء الطبيعة، ويختص بالثاني علماء الرياضة والفيزياء الرياضية، أما إذا امتزج اختلاف الكيف واختلاف الكم معا في حالة واحدة، فها هنا يكون مجال التفكير الفلسفي بمعناه الدقيق.
فلو كان الأمر في وصف الفضائل المختلفة - مثلا - مقصورا على وصف تفصيلي لكل فعل مما يندرج تحت هذه الفضيلة أو تلك، لما كان ذلك مما يعني الفيلسوف؛ فإذا قلت كما قال أفلاطون إن الأفعال الفاضلة كلها تقع في أربعة أنواع، هي العفة والشجاعة والحكمة والعدل، فالعفة هي الاسم العام الذي نطلقه على مجموعة الأفعال الفاضلة الخاصة بالبدن وشهواته، والشجاعة هي الاسم العام الذي نسمي به مجموعة الأفعال الفاضلة الخاصة بالقلب ووجداناته، والحكمة هي الاسم العام الذي ندرج تحته مجموعة الأفعال الفاضلة الخاصة بالعقل وأحكامه، والعدل هو في أن نجعل كلا من الفضائل الثلاثة المذكورة في حدوده الصحيحة بحيث لا يجور منها جانب على جانب؛ إذا قلت هذا الذي قاله أفلاطون في الفضائل الرئيسية وأنواعها، ثم سكت عند هذا الحد، لما كان في الأمر فلسفة؛ لأنه عندئذ يكون تصنيفا علميا لمجموعات الأفعال المختلفة كيفا، كما نصنف أنواع الصخور وأنواع الطيور وأنواع الفاكهة.
أما إذا لم تكتف بالتصنيف الكيفي وحده - كما لم يكتف به أفلاطون - فمضيت تبحث عن اختلاف في الدرجة أيضا، تستطيع على أساسه أن ترتب تلك الفضائل علوا وسفلا، فتجعل العفة التي هي فضيلة البدن أدنى مقاما وأقل درجة من الشجاعة التي هي فضيلة القلب، وهذه بدورها أدنى مقاما وأقل درجة من الحكمة التي هي فضيلة العقل، وهذه بدورها أدنى مقاما وأقل درجة من العدل الذي هو فضيلة تلك الفضائل كلها؛ أقول لو أنك رأيت في اختلاف الكيف اختلافا في الدرجة أيضا، فعندئذ أنت الفيلسوف.
إن الحالة التي يكون فيها امتزاج بين النوع والدرجة - وإن شئت فقل بين الكيف والكم - وهي الحالة التي يهتم بها الفيلسوف في رأي «كولنجوود»، تتضمن أن الجنس الذي نقسمه إلى أنواعه إنما يتبدى في تلك الأنواع على درجات متفاوتة؛ فالحياة - مثلا - تعبر عن نفسها في أنواع من الكائنات الحية، ولو جعلت تصف تلك الأنواع نوعا نوعا لما كنت بهذا الوصف فيلسوفا، لكنك إذا أدركت الأساس الذي يجعل تلك الأنواع سلما تتفاوت درجاته في كمال التعبير عن الحياة، بحيث يكون نوع منها أغزر وأعلى تعبيرا عن الحياة من نوع آخر، كنت بهذا الترتيب للأنواع فيلسوفا؛ لأنك رأيت كيف يؤدي اختلاف الكيف في نوعين إلى اختلاف الدرجة بينهما؛ فلا بد - في الحالة التي يهتم بها الفيلسوف - أن يكون النوع والدرجة على صلة أحدهما بالآخر، بحيث يظل النوع الواحد يزداد في صفة معينة حتى يصل بها إلى حد معلوم، وعندئذ يتمخض عن نوع جديد، يظل بدوره يزداد في صفة معينة حتى يصل بها إلى حد معلوم، وعندئذ يتمخض عن نوع جديد، وهلم جرا.
راجع على هذا الضوء كثيرا جدا مما قاله الفلاسفة في شتى الموضوعات تجده ممثلا لهذه الفكرة؛ فكرة السلم المتدرج الذي يرتب به الفيلسوف أنواع الجنس الذي يبحثه ترتيبا يجعل الأدنى أقل درجة من الأعلى، ويجعل اختلاف النوعين كيفا، ملازما لاختلافهما درجة.
فهذا هو أفلاطون يقسم المعرفة أنواعا ودرجات في آن واحد؛ فإن تكن أنواعها عنده أربعة تبدأ في أسفل بالتخمين وتصعد تدريجا إلى الرأي ثم إلى المعرفة الاستنباطية وأخيرا إلى المعرفة الحدسية، فهذا الاختلاف الكيفي بين تلك الأنواع هو نفسه اختلاف في درجات تلك الأنواع من حيث بعدها أو قربها من اليقين. وكذلك يقسم أفلاطون الوجود درجات ثلاثا، تختلف نوعا لأنها تتفاوت علوا، وهي العدم فشبه الوجود فالوجود الكامل، وهو الوجود الحقيقي. ويقسم اللذائذ قسمين يختلفان نوعا لأنهما يتفاوتان درجة، وهما لذائذ الجسد ولذائذ الروح. وهكذا وهكذا كلما قرأت له بحثا في موضوع ألفيته يقسمه أنواعا تتفاوت في درجاتها.
وهذا بعينه تراه عند أرسطو في كثير من مواضع بحثه؛ فلئن كانت «النفس» عنده ثلاثة أنواع؛ نفس نامية في النبات، ونفس حاسة في الحيوان، ونفس ناطقة في الإنسان؛ فليس هذا الاختلاف الكيفي مجرد تعدد في الأنواع مع بقائها على درجة واحدة، بل إنها بسبب اختلافها ذاك تتفاوت أيضا في نصيبها من الكمال، وتكون النفس الأعلى أكمل تعبيرا عن الحياة من النفس الأدنى؛ لأن في الأعلى ما في الأدنى وزيادة؛ ففي النفس الحاسة عند الحيوان ما عند النبات من نمو ثم يزيد الحس، وفي النفس الناطقة عند الإنسان ما عند النبات والحيوان من نمو وحس ثم يزيد التفكير. لو كان أرسطو قد اكتفى بذكر أنواع الكائنات الحية وأوصافها لما كان فيلسوفا، لكنه فيلسوف بالمبدأ الذي رآه يربط اختلاف النوع بتفاوت الدرجة في سلم الأحياء.
ولو جعلنا نسوق الأمثلة من الفلاسفة في كل عصر، لنتبين إلى أي حد كان هذا الترتيب الدرجي للأنواع التي تندرج تحت جنس ما، هو شغل الفيلسوف الشاغل، لما كانت هنالك نهاية نقف عندها. وحسبنا أن نذكر للقارئ ذكرا سريعا لطائفة من الفلاسفة، كان هذا النوع من التفكير واضحا في فلسفتهم؛ فانظر إلى أفلوطين وهو يسلسل الموجودات درجات، أعلاها هو الله الخالق، وأدناها هو المادة، وبينهما سلم من عقول وأنفس؛ وإلى الفلاسفة المسلمين كيف اهتموا دائما بترتيب الكائنات في سلم متفاوت الدرجات؛ فهذا هو الكندي يجعل بين الله الخالق والعالم المخلوق حلقات وسطى يؤدي أعلاها إلى أدناها، بحيث يؤثر الأعلى في الأدنى ولا يؤثر الأدنى في الأعلى؛ لأن هذا الأعلى هو أرقى منه في مراتب الوجود؛ فهناك - إذن - ثلاث درجات: العقل الإلهي، فالنفس التي هي بدورها درجات، ثم العالم المادي. فليس الاختلاف هنا اختلافا نوعيا في الكيف فقط ، بل إنه كذلك وفي نفس الوقت اختلاف في المنزلة. وهذا هو الفارابي كذلك يدمج اختلاف النوع في تفاوت الدرجة، فمن الله يفيض مثاله الذي هو عقل أول تأتي بعده درجات ثمان من العقول، على أن هذه العقول التسعة كلها منوطة بالعالم العلوي - عالم الأفلاك - ولذلك فهي بمثابة المرتبة الثانية بعد الله، وفي المرتبة الثالثة يجيء العقل الفعال، وهو الذي من شأنه أن يصل العالم العلوي بالعالم السفلي، ثم تجيء النفس في المرتبة الرابعة، وفي الخامسة تجيء الصورة، وفي السادسة تجيء المادة، وبهاتين الأخيرتين تنتهي سلسلة الموجودات التي ليست ذواتها أجساما.
2
وتدرج الكائنات هذا مبدأ أساسي في فلسفة ليبنتز؛ فالأمر في تلك الكائنات كمجموعة من مرايا كلها تعكس شيئا بذاته، ولكن كلا منها تزيد درجة عن سابقتها في وضوح الصورة المنعكسة عليها. وانظر إلى هيجل في وصفه لتفاوت الكائنات من حيث تعبيرها عن الروح المطلق، ثم انظر إليه كذلك في ترتيبه للفنون حسب غلبة الصورة على المادة أو المادة على الصورة، بحيث يكون أعلاها هو الفن الذي يكاد يكون صورة خالصة بغير مادة، وأدناها هو الفن الذي يكاد يكون مادة خالصة بغير صورة؛ وعلى هذا فالموسيقى أعلى من التصوير، والتصوير أعلى من النحت، والنحت أعلى من العمارة.
Unknown page