Science ) إلا في القرن الماضي، فصاغها من صاغها لأول مرة عام 1840م؟
1
ثم أليس عجيبا ألا يكون عندنا في اللغة العربية كلمة تدل على هذا المعنى الخاص حتى اليوم؛ فكلمة «علم» وكلمة «عالم» بالمعنى الذي يحدد استعمالها لعلم الطبيعة لا تعرفها اللغة العربية، وكل من تعلم شيئا فهو عالم ومعرفته علم؛ فدارس الشريعة عالم، ودارس النحو والصرف عالم، كما أن دارس الفلك أو الكيمياء عالم. نعم، لم يكن للفلسفة معنى يقصرها في ميدان متميز عن ميادين العلوم الطبيعية والرياضية وعن ميدان اللاهوت؛ إذ كان للفيلسوف أن يتحدث فيما شاء من هذه الموضوعات، غير متميز - أحيانا - إلا بشيء واحد، وهو أنه لا يعتمد على شهادة الحس في ملاحظاته وتجاربه، بل يعتمد على ما يستخرجه من جوفه مستعينا بما يسميه «الحدس» أو البصيرة النافذة إلى حقائق الأمور دون حاجة منه إلى ممارسة هذه الأمور بحواسه الظاهرة.
ولعل الخطوة الرئيسية الأولى في الطريق إلى تحديد الفلسفة وتحديد عملها، قد جاءت أول ما جاءت على أيدي فئة من رجال الرياضة، مثل «فريجه» و«هوسرل» و«رسل» الذين أرادوا أن يخلصوا الرياضة من كل شائبة تشوبها مما ليس برياضة في طبيعته؛ أعني أن يخلصوها من كل ما هو تجريبي أو نفسي؛ ذلك لأن المدركات الرياضية كانت حتى «جون ستيوارت مل» في القرن الماضي ممتزجة مختلطة بصنوف من المعرفة التي تجيء عن طريق الحواس، أو التي تجيء عن طريق الاستبطان لما يجري في الشعور؛ ففكرة العدد 2 مثلا، أو فكرة المثلث القائم الزاوية قد جاءت إلينا من تعميم وصلنا إليه خلال ما قد شاهدناه بحواسنا من أزواج أو مثلثات، فلا فرق بين الطريقة التي كونت بها فكرتي عن «الشجرة» بصفة عامة والطريقة التي كونت بها فكرتي عن العدد 2 أو عن المثلث القائم الزاوية؛ فكل من الطريقين يبدأ من مشاهدات جزئية وينتهي إلى تعميم كلي. هكذا كان يقول «مل»؛ لأنه لم يكن يفرق من حيث الأساس المنطقي بين العلوم الطبيعية والعلوم الرياضية، كما لم يكن أغلب الفلاسفة من قبله يفرقون، إلا أن اتجاه السير يختلف عنده عنه عندهم؛ فبينما هو يجعل العلوم الرياضية كالعلوم الطبيعية في طريقة تحصيلها لأنها تجريبية مثلها واحتمالية مثلها، كان الفلاسفة السابقون يجعلون العلوم الطبيعية كالعلوم الرياضية في طريقة الوصول إليها؛ لأنها قبلية مثلها، يدركها العقل بغير حاجة ضرورية إلى تجربة الحواس؛ ولهذا فهي يقينية مثلها، أو ينبغي أن تكون كذلك.
ثم جاء في النصف الثاني من القرن الماضي هؤلاء الرياضيون يحاولون تخليص الرياضة مما يخلطها بعلوم الطبيعة؛ لأنهم رأوها مختلفة عنها في أساسها المنطقي نفسه؛ فالرياضة البحتة لا نحصلها بالاستقراء كما نحصل العلم بكائنات الطبيعة، كلا، ولا نحصلها بالاستبطان النفسي كما نحصل العلم بذواتنا الشاعرة؛ فحقائق الرياضة البحتة من صنف فريد، لا هو شبيه بهذا ولا بذلك؛ فمصطلحاتها محددة وبراهينها قاطعة، ونظرياتها تصدق صدقا ضروريا وشاملا. نعم، إن المنطق الصوري (وهو جزء من الفلسفة بمعناها في العرف القديم، لكن ما كل فلسفة منطق في ذلك العرف) كالرياضة يحدد مصطلحاته، ويقطع في براهينه، وتجيء نظرياته صادقة صدقا ضروريا وشاملا؛ فلا فرق بين أن تقول في الرياضة إن 2 + 2 = 4، وأن تقول في المنطق الصوري إنه إذا كانت أ هي ب، وكانت ب هي ج، كانت أ هي ج؛ فإذا كانت الرياضة والمنطق الصوري معا لا يجعلان الكائنات الطبيعية المحسوسة موضوعهما ، ولا يجعلان المشاعر النفسية موضوعهما كذلك، فأين يقع ذلك الموضوع؟ أيكون هنالك مجال آخر إلى جانب المجالين اللذين قد جرى العرف طوال العصور على قسمة العالم إليهما، وهما الطبيعة من ناحية، والذات من ناحية أخرى؟ نعم. هكذا أجاب هؤلاء الرياضيون بادئ ذي بدء؛ إذ نهضوا لتخليص الرياضة من شوائب التجربة الحسية والمشاعر النفسية في آن معا. نعم هنالك مجال ثالث إلى جانب الطبيعة والنفس، وكائناته كائنات منطقية خالصة، فلا هي من «مادة» كالطبيعة ولا هي من «وجدان» كالنفس والشعور؛ كائناتها منطقية خالصة، مثل «كل» و«إذا» و«أو» و«حق» و«باطل»، ومثل «الفئات» (أي الأنواع) و«الأعداد» و«استنباط النتائج من مقدماتها» وغير ذلك. ولو قلنا إنه قد تبين أن هنالك مجالا ثالثا إلى جانب مجالي علم الطبيعة وعلم النفس، وأن ذلك المجال الثالث يشمل كائنات منطقية خالصة، فقد قلنا بالتالي إن جانبا من ميدان الفلسفة - جانبا واحدا على الأقل - وهو المنطق، قد خرج من نطاق البحث الفلسفي كما كان مفهوما في عصور التاريخ.
وأعقبت ذلك مرحلة أخرى، حرمت فيها الفلسفة من جانب آخر من جوانبها، وذلك حين انتقل علم النفس من ميدان الاستبطان الذاتي إلى ميدان البحث التجريبي والحساب الإحصائي، وبعد أن كان الفلاسفة الباحثون في النفس الإنسانية كيف تفكر وكيف تعرف وكيف تسير الجسم في طريق سلوكي معين، أقول بعد أن كان هؤلاء الفلاسفة الباحثون في النفس الإنسانية من شتى نواحيها يعدون أنفسهم من المشتغلين ب «العلوم العقلية»، جاءت التجارب العلمية في معامل علم النفس الجديد لتتناول بآلاتها ومقاييسها وإحصاءاتها ما كان هؤلاء يتناولونه - وهم جالسون على كراسيهم - بالتأمل الحدسي. وها هنا تساءل القوم: ماذا بقي لرجال الفلسفة من موضوعات «المعرفة» و«الأخلاق» و«المنطق» إذا لم تعد هذه الأشياء من الحالات التي يصح فيها القول بمجرد التأمل الحدسي؟
ثم جاءت خطوة ثالثة وأخيرة في تطور موضوع البحث الفلسفي، كما كان مفهوما عند النظرة التقليدية؛ فقد خرج المنطق الصوري ليكون مع الرياضة في مجال مستقل عن مجالي الطبيعة والنفس، ثم خرج علم النفس ليدخل معامل التجارب وقوائم الإحصاء مع سائر العلوم الطبيعية، وأخيرا جاء «برنتانو» (فيلسوف نمساوي كان أستاذا بجامعة فيينا في أواخر القرن التاسع عشر) ليبرز مبدأ استمد أصوله من فلسفة العصور الوسطى، وهو أن الحالات العقلية والعمليات العقلية كلها لا بد أن تشير إلى شيء خارج حدودها؛ فكما يقال عن الفعل المتعدي إنه يتطلب حتما مفعولا به ليتم معناه، فكذلك يقال عن أية حالة أو عملية عقلية إنها متعدية بحيث تتطلب طرفا خارج كيانها ليتم معناها؛ فالفكرة من أفكارك لا بد أن تكون فكرة عن شيء، والحالة الوجدانية في لحظة معينة من حياتك لا بد أن تكون وجدانا متعلقا بشيء، وعلى الجملة لا بد لكل فعل شعوري من موضوع ينصب عليه؛ فلا تفكير ولا وجدان ولا إرادة «في الهواء» كما يقولون، بل يتحتم أن يكون لهذه الحالات الشعورية كلها أطراف خارجية تتعلق بها. إنك إذا قلت إني أرى فلا بد أن تكون الرؤية منصبة على مرئي، وإذا قلت إني حزين فلا بد أن يكون الحزن ناشئا عن شيء بعثه في نفسك، وهكذا. وليست الحالة الشعورية من طبيعة الشيء الذي يكون مدارها؛ فقد أتخيل - مثلا - جنية لها وجه امرأة وذيل سمكة، فيكون خيالي هذا كائنا عقليا موجودا وجودا فعليا، مع أن الشيء الذي يتعلق به الخيال - وهو الجنية - ذو جسم مشكل على نحو معين وليس له وجود. وقد أفرض أنني أسكن قصرا شامخا، فيكون الفرض حالة عقلية موجودة فعلا في مجري شعوري، على حين أن موضوع الفرض غير ذي وجود. وباختصار فإن الحالة الشعورية أو الفعل الشعوري شيء غير موضوعه الذي يتعلق به.
وتبع «برنتانو» اثنان من تلاميذه، هما «مينونج» و«هوسرل»، وذهبا كما ذهب أستاذهما إلى مبدأ «التعدي» الذي شرحناه، والذي يشترط لأي فعل شعوري طرفا يتعلق به ليتم معناه. غير أن «مينونج» و«هوسرل» قد اقتصرا في بحثهما على الحالات العقلية الإدراكية دون الحالات الشعورية الأخرى من وجدان وإرادة، وانتهي كلاهما إلى القول بأنه لا بد لكل تصور عقلي، أو حكم، أو تذكر، أو استدلال، أو غير ذلك من العمليات الإدراكية، لا بد له من طرف خارجي يشير إليه ويتعلق به؛ فإذا تكون في رأسي تصور كلي مثل «إنسان»، أو حكم مثل «الإنسان فان»، أو استدلال مثل «إذا كانت الحرارة تذيب الأجسام فهي إذن تذيب الجليد»؛ إذا تكون في رأسي شيء من هذا، فلا بد أن يكون هنالك شيء خارجي يكون هو معنى هذه الأشياء ومثبتا لصدقها، ولكن أين عساها أن تكون؟ إنني قد أفرض ما ليس له وجود في العالم الطبيعي، كأن أفرض - مثلا - أن شجرة سمقت بفروعها حتى بلغت عنان السماء، كيف يكون لهذا الفرض معنى إذا لم يكن هنالك الكائن الفعلي الذي يصوره الفرض؟ لكن هذا الكائن الفعلي الذي يجعل للفرض معنى ليس له وجود في العالم الطبيعي، كلا ولا وجود له في العالم النفسي؛ لأن الشجرة التي هي من خشب وجذوع وفروع لا تكون داخل الرأس؛ إذن فأين يكون الشيء الذي يجعل لهذا الفرض معنى؟ أين يكون المسمى الذي يجعل معنى لكلمة «إنسان»؟ إنها كلها أشياء لا بد من افتراض وجودها ليكون لكلامنا معنى؛ وإذن فلا بد من افتراض مجال ثالث أو عالم ثالث إلى جانب الطبيعة من جهة والنفس من جهة أخرى، هو مجال «المعاني»، وهو هو نفسه المجال الذي تختص به الفلسفة والمنطق لتترك الطبيعة لعلومها والنفس لعلمها؛ فلئن كانت الكائنات الطبيعية من ضوء وصوت وكهرباء وماء ونبات من شأن علمي الطبيعة والحياة، ثم إن كانت أفعال العقل وحالاته من شأن علم النفس، فهنالك مجال ثالث هو ميدان الرياضة والفلسفة والمنطق، وأعني به المجال الذي تكون كائناته هي ما تشير إليه أفكارنا ومشاعرنا وأحكامنا؛ فالفكرة أو الوجدان أو الحكم ليس ضوءا ولا صوتا ولا شجرا ولا ماء حتى يكون موضوعا للعلوم الطبيعية، وليس هو مجرد حالات عابرة يجري بها تيار العقل، تظهر وتختفي، ليكون مما يبحثه علم النفس، ولكنها ثوابت، ولا بد أن تكون مشيرة إلى ثوابت مثلها كائنة في عالم وحدها.
وما إن استهل القرن العشرون بسنواته الأولى، حتى أدرك رجال الفلسفة والمنطق أن مجال نشاطهم ليس هو مجال العلوم الخاصة؛ فليست الفلسفة علما يقف إلى جانب العلوم الأخرى من طبيعة وكيمياء وفلك ونفس، كلا، ولا هي مما يحصل بالاستقراء والمشاهدة وإجراء التجارب، بل هي تجول في هذا المجال الثالث الذي أشار إليه «مينونج» و«هوسرل»، والذي قوامه معاني ما يطوف بعقولنا من أفكار ومبادئ، وبخاصة في العلوم الصورية التي هي المنطق والرياضة؛ فأين أجد - مثلا - معني قانون الذاتية في المنطق الذي يقول إن الشيء يظل هو ما هو؛ أي إن أ = أ؟ وأين أجد معنى العدد صفر أو العدد 3 أو أي عدد شئت؟ وأين أجد معنى المثلث والدائرة؟ لا تقل إنك واجد هذه المعاني في دنيا الأشياء الجزئية، فتجد قانون الذاتية - مثلا - في أن صديقك محمدا هو اليوم ما كان بالأمس، وتجد معنى الثلاثة في هذه البرتقالات الثلاث، ومعنى الدائرة في هذا القرش؛ لا تقل ذلك لأن هذه كلها تطبيقات جزئية للفكرة، وأما معنى الفكرة نفسها فلا بد أن يكون شيئا آخر غير تطبيقاتها، بحيث لو انعدمت هذه الحالات التطبيقية كلها بقيت الفكرة من جهة ومعناها من جهة أخرى، وأعود فأسأل: أين يكون معناها؟ وجواب «مينونج» و«هوسرل» هو أن المعنى إنما يكون في عالم ثالث غير عالم الطبيعة وعالم النفس.
تلك إذن أفلاطونية من طراز جديد؛ فقد كان أفلاطون يفترض إلى جانب العالم الطبيعي والعالم الذهني عند الواحد من الناس، عالما ثالثا قوامه معاني الأفكار الكلية التي تكون في العقل الإنساني؛ فمثلا هناك جزئيات في العالم الطبيعي، كأفراد الناس من زيد إلى عمرو وخالد، ثم هنالك في عقلي فكرة عامة كلية عن «الإنسان»، وهي فكرة تتمثل في زيد وعمرو وخالد، لكن هؤلاء ليسوا معناها؛ إذ قد ينمحي هؤلاء الأفراد وتبقى فكرة الإنسان تتطلب معنى، وأخيرا هنالك عالم ثالث يفترض وجوده أفلاطون، هو عالم المثل، يجعله مقرا لمعاني الأفكار الكلية التي في رءوسنا؛ ففكرة «الإنسان» تجد معناها في مثال الإنسان؛ أي في تعريفه أو جوهر حقيقته الذي هو من كائنات العالم الثالث.
Unknown page