ومؤدى المذهب الهيجلي هو أن الكون كله بجميع من فيه وما فيه، إن هو إلا تعبير عن «روح العالم» أو «الفكرة المطلقة»، أو إن شئت فقل «المطلق» على سبيل الاختصار؛ فهذا «المطلق» الروحاني في جوهره إنما يتبدى ويكشف عن نفسه في مظاهر العالم كما تقع لحواسنا؛ فلئن كان العالم المحسوس متطورا من مراحل أدنى إلى مراحل أعلى، فما ذاك إلا تطور في كشف «الروح المطلق» عن نفسه كشفا متدرجا، كأنما هو الشريط المنطوي يبسط نفسه بسطا ليبدو منه ما قد كان خافيا. وليس الكون على هذا المذهب بمختلف عن كائن عضوي حي ذي روح ورغبات وأهداف؛ فكما تستطيع أن تفسر سلوك الكائن الحي إذا عرفت رغباته وأهدافه، فكذلك تستطيع أن تفسر كل ظواهر الكون وتغيرات التاريخ وتطورات الأنظمة إذا عرفت الروح الكوني كيف يكشف عن نفسه وإلى أي هدف يتجه.
فلئن كان هيجل، كأفلاطون وأرسطو، يذهب إلى القول بحقيقة روحانية عليا وراء هذا العالم المحسوس بما فيه من كائنات جزئية، إلا أنه يختلف عنهما في أن الحقيقة الروحية عنده متطورة في الكشف عن نفسها، على حين أن الفيلسوفين القديمين كانا يريان أنها حقيقة ثابتة ساكنة؛ فلا عجب أن رأينا المنطق الأرسطي - والمنطق هو المرآة المصورة لطرائق الفكر ومبادئه - قائما على أساس ذلك الثبات والسكون؛ فالأنواع والأجناس في ذلك المنطق ذوات تعريفات ثابتة لأنها ذوات جواهر لا يطرأ عليها تغير، وبناء على ذلك المنطق محال أن تجتمع الصفة ونقيضها في شيء واحد وفي وقت واحد؛ فإذا كانت «أ» متصفة بصفة «ب» في لحظة ما، فيستحيل أن تكون متصفة في تلك اللحظة نفسها بصفة «ب»، فإما أن تكون «أ» متصفة بالصفة «ب» أو بنقيضها «ب» ولا ثالث لهذين الوضعين. أما والحقيقة الكونية متطورة عند هيجل، فلا بد أن يتغير تصوره للمنطق تبعا لذلك، فلم يعد يرضيه المنطق الأرسطي الصوري السكوني؛ لأنه لا يصور الحقيقة المتطورة، واستبدل به منطقا تطوريا يقابل به الحقيقة كما تصورها؛ فإذا كان شيء ما «أ» سيتغير بحيث يصبح شيئا آخر «ب»، فلا بد أن تكون عناصر «ب» كائنة في «أ» ليمكن خروجها منها، وإذن فقد كانت «أ» محتوية على شيء غيرها؛ أي محتوية على نقيضها؛ وبهذا يجتمع النقيضان في كائن واحد على خلاف المبدأ الأرسطي. كيف يمكن - مثلا - للشجرة أن تخرج من البذرة إذا لم تكن البذرة محتوية على ما ليس بذرة؟ وكيف يمكن للرجل أن ينشأ عن الطفل إذا لم يكن الطفل محتويا على ما ليس طفلا؟ وهكذا.
كان هذا المنطق التطوري، أو الجدلي كما يسمونه، هو محور الفلسفة الهيجلية، فهي فلسفة مثالية تطورية، أو مثالية جدلية، تذهب إلى أن في الكون روحا مطلقا يكشف عن نفسه على طراز تطوري أو جدلي، وهو طراز قوامه أن تكون الخطوة الأولى - ويمكن تسميتها بالوضع - كاشفة عن صفة ما، ثم تتلوها خطوة ثانية - وهي نقيض الوضع - كاشفة عن نقيض الصفة الأولى، وأخيرا تجيء مرحلة ثالثة - هي التقاء الطرفين - تدمج الوضع ونقيضه في كائن واحد، ثم يصبح هذا الدمج «وضعا» يتلوه «النقيض»، فدمج جديد، وهلم جرا. وقد جاء ماركس واستغل هذه الفلسفة التطورية الهيجلية، بعد أن حولها من «مثالية» تتناول الأفكار في تطورها، إلى «مادية» تتناول الأوضاع الاجتماعية كما شهدها التاريخ؛ فالنظام الرأسمالي - مثلا - فيه وضع ونقيضه؛ إذ فيه صاحب رأس المال والعمال الذين هم بغير مال، ويستحيل قيام الجانب الأول بغير الجانب الثاني؛ ومن ثم يقوم الجانبان معا في نظام واحد، لكنهما نقيضان؛ وإذن فلا بد من صراع بينهما ينتهي إلى مرحلة يلتقي فيها الطرفان، بحيث يصبح العامل هو نفسه صاحب المال.
ولو غضضنا البصر عن هذا التحول للفلسفة الهيجلية على يدي ماركس، وهو تحول أبقى على الجانب التطوري منها ثم استبدل بالجانب المثالي جانبا ماديا، فإننا مع ذلك نستطيع أن نرى كيف كانت تلك الفلسفة ملتقى شتى اتجاهات عصرها؛ مما أكسبها رواجا عجيبا جاوزت به حدود أرضها فعبرت بحر المانش إلى إنجلترا، وعبرت المحيط الأطلسي إلى أمريكا ، وأصبحت هي الفلسفة السائدة هنا وهناك فترة من زمان. وحسبها أن تكون فلسفة تهيئ للمتدين أساسا لتدينه بعد أن هدمه هيوم في إنجلترا، وعصر التنوير في فرنسا، وكانت في ألمانيا؛ وتهيئ منفذا لمن أراد الخروج من الحتمية المحكمة التي اقتضاها علم الطبيعة النيوتوني. أضف إلى ذلك كله أنها فلسفة وجدت من العلم المعاصر لها ما يعززها؛ فقد كان هنالك إلى جانبها «دارون» ينشر نظريته في تطور الأحياء، فكأنما كان ذلك بمثابة إعلان المصالحة بين طرفين ظن أنهما ضدان لا يلتقيان، وهما الدين والعلم؛ فما كان أيسر على المتحمسين للدين أن يوحدوا بين «المطلق» الهيجلي وبين الله عند المسيحيين، كما وجد المتحمسون للعلم في الفلسفة الهيجلية معينا يرجعون إليه في نظرتهم التطورية التي حاولوا أن ينظروا بها إلى شتي ميادين المعرفة.
كان هذا المعين الزاخر - معين الفلسفة الهيجلية - مصدرا لتيارات الفكر كلها في القارة الأوروبية وفي إنجلترا وأمريكا على السواء، حتى حين كانت تلك الفلسفة موضعا للهجوم والنقد. وإنه لمما يستلفت النظر حقا أن نرى الطبائع القومية المختلفة قد أخذت من الفلسفة الهيجلية ما يتفق وتلك الطبائع؛ فلم يكن أثرها على القارة الأوروبية هو نفسه أثرها على الناطقين بالإنجليزية في إنجلترا وأمريك؛ ومن ثم انشعبت الفلسفة المعاصرة في اتجاهات مختلفة على الرغم من أن مصدرها واحد؛ فقد رأيت كيف أخذ ماركس فلسفته عن الفلسفة الهيجلية بعد تحوير، وكذلك فعل كيركجارد الوجودي حين ثار على هيجل ونسقه الذي يجعل الوجود كله كائنا عضويا واحدا؛ فقد أفزعه - على حد قوله - أن يرى نفسه فقرة من فقرات هذا الكائن الكبير، لا يتفرد وحده بوجود خاص به يمارس فيه إرادته الحرة وشخصيته المستقلة. وهكذا استقى ماركس وكيركجارد من معين الفلسفة الهيجلية نواحيها التاريخية والسياسية والأخلاقية والدينية.
أما حين عبرت فلسفة هيجل إلى إنجلترا فقد كانت موردا للفلاسفة هناك، ولكن من نواح أخرى، هي نواحيها المنطقية والميتافيزيقية وما يتصل منها بنظرية المعرفة؛ فلئن كان الجانب الإنساني من فلسفة هيجل هو ما لفت الأنظار في القارة الأوروبية ، فقد كان الجانب الفلسفي الصميم منها هو الذي أغرى فلاسفة إنجلترا وأمريكا؛ ففي إنجلترا كان على رأس المدرسة الهيجلية «برادلي»
1
و«ماكتاجارت»
2
اللذان على أيديهما أخذ الفلسفة «رسل » و«مور». وفي أمريكا كان «جوزيا رويس»
Unknown page