حين تقدم فؤاد لخطبة وهيبة أدرك الحاج مسعود أبو عطوان ما صنعه سويلم، ورحب العمدة بالحاج محمدين وبفؤاد ترحيبا طبيعيا عن سليقة مواتية، وقال: والله يا حاج من جهتي أنا لا مانع عندي، فأنت تاجر معروف، والرجل حين يكون له مثل اسمك في التجارة لا بد أن يكون شريفا يعرف أصول الناس وأصول المعاملة. - أكرمك الله يا حضرة العمدة. - ولكنك تعلم أن وهيبة تحمل الليسانس.
وقاطعه الحاج محمدين: والله يا حضرة العمدة أنا الذي جعلته يقعد بجانبي في المحل، بعد أن حصل على البكالوريا، فنحن عائلة تجار من جدود والعلم عندنا هو التجارة.
قال العمدة: ونعم الكلام يا حاج، ولكنني أسأت التعبير وليس هذا ما أقصد إليه، فإنه لا عيب في ابننا فؤاد، والتعليم وسيلة للثقافة.
وقاطعه الحاج محمدين: هذا كلام الكبار والله.
وواصل العمدة حديثه: والتجارة تجعل صاحبها أعظم في عمله من الذي حصل على الدكتوراه، وإنما ما قصدت إليه أنني لا بد أن أسأل وهيبة وأجعلها توافق عن اقتناع.
وقال الحاج محمدين : ونعم الكلام. - نحن يا حاج لا نستطيع أن نحمل مسئولية أولادنا وهم كبار، يكفينا مسئوليتهم وهم صغار، ولقد أرادت أن تتعلم وأردت لها ذلك في نفس الوقت، وأنا ليس عندي غيرها، وقلت العلم يجعل من عقلها عقل رجل، والآن وقد تعلمت أصبح من حقها على الأقل أن تختار شريك حياتها. - لقد أوصى النبي بذلك في وقت لم يكن الفتيات فيه عرفن الجامعة ولا حتى المدرسة. متى نرجع يا حضرة العمدة؟ - أسبوع واحد؟ - وهو كذلك. •••
قالت وهيبة: أكون ليسانس في الآداب وزوجي رجل البيت بلا شهادة جامعية؟
وقالت الحاجة: يا بنتي هذا زواج وليس جامعة. - يا نينا البيت يجب أن يكون جامعة للأولاد. - البركة فيك أنت، علمي أولادك علوم المدرسة وأبوهم يعلمهم علوم الدنيا.
وقال الحاج مسعود: يا بنتي لقد تقدم لك الكثيرون من أهل البلد حاملي الشهادات، وللأسف وجدتهم جميعا طامعين في القرشين، أو يريدون أن يتزوجوا بنت العمدة، والمال زائل والعمودية زائلة، لقد كنت مصرا أن يتزوجك من يريدك أنت، وأنت وافقتني ورفضت كل الذين تقدموا، في هذه المرة العريس عاقل وفي غنى عن مالنا، وعرف الدنيا، وجاء يخطب وهيبة، لا يهمه مالها ولا عمودية أبيها، والأمر من قبل ومن بعد لك، قومي يا حاجة واتركيها تفكر. •••
وفيم أفكر، أخطأني الحب، زميلي عزام أحببته وأحبني، لم يزد الكلام بيننا عن جمل تعد على أصابع اليدين، وتركني بعد أن ضاقت به السبل، والحمد لله أنه تركني، لقد تزوج بعد ذلك من ابنة عمه، فهو شاب لا شخصية له، أمره أبوه أن يتزوج فتزوج، ورجل بلا شخصية كالكلام بلا معنى، والأيام تجري، وإن كنت أخفي القلق عن الناس، فهو يمور في نفسي ويثور، يفترسها وينهشها، يقض مضجعي، يحيل ساعات أيامي رعبا وهلعا، أي مصير يمكن أن ألقى إليه إذا لم أتزوج، ولا أخ ولا معين على الحياة بعد أبي أطال الله عمره، هذا زواج منطقي لا عاطفة فيه، والعاطفة لا تغتصب ولا يستطيع أن يخلقها إلا بارئ النفوس، وأين أنتظر العاطفة وأين مني الطرف الآخر فيها وأنا حبيسة البيت، فقد رفض أبي أن أعمل بالليسانس وهو محق، فقد سبق عصره حين جعلني أتعلم، وهو الفلاح القح تحكمه القرية بكل أوضاعها، وقد ارتضى على نفسه تشنيع أعدائه، وأي عمدة بلا أعداء، ومن المستحيل عليه بعد ذلك أن يجعلني أعمل أيضا، وكيف كان يمكن أن أعمل؟ ألم يكف أنه شتت بيته أربع سنوات من أجلي، وسمح لأمي أن تلازمني في القاهرة، وهل يمكن أن يشتت بيته عمره كله، أنا لا أستطيع أن ألومه، وليس من المعقول أن أضع ما أصابته مني ظروف المجتمع على كتف أبي، إن تعليمي كان في ذاته شذوذا عن طبيعة الأمور في حياة مصر، فهل يقبل المنطق أن ألوم أبي اليوم لأنه حقق رغبتي في التعليم؟ أعرف أنها كانت رغبته أيضا لأنه يريد أن يشعر أن ابنته لا تختلف عن الرجال في شيء، أويحسب هذا له أم عليه؟
Unknown page