والغريب أنه قد بدأ يتكون له بهذه التصرفات نفسها، ومهما قيل في أصلها، مركز متميز بين زملائه أطباء الامتياز، وأوامره أصبحت تقابل باحترام لا يمت بصلة إلى هز الأكتاف الذي تقابل به أوامر الآخرين التي كثيرا ما تأخذ شكل الرجاء، ولكن السبب الأهم في الحقيقة هو تفانيه في العمل في وسط يعتبر فيه العمل واجبا ثقيلا مفروضا ولا هدف منه سوى الماهية، وما دامت مضمونة فما الداعي لوجع الرأس؟
وكان يومه الأكبر - حلمه الدائم طوال أيام الأسبوع - هو يوم العمليات.
كان يصحو له من الرابعة صباحا، ويحس بالسعادة الكبرى بكل عمل يقوم به لتجهيز المرضى للدخول إلى الغرفة المقدسة. ولا يكتفي بواجبات الطبيب إنما بنفسه يشرف على استحمام المرضى، وعلى تجهيز أوراقهم وأشعاتهم، ويكفيه شبح ابتسامة رضاء سريعة تلوح على وجه الأستاذ. كانت الانفعالة التي تحدث له في أعقاب هذه المكافأة التي ربما لا يلحظها أحد أروع عنده من كل الشهادات والوظائف والعلاوات.
وكان اليوم يوم العمليات، وناهيك عن العمليات الصغيرة التي ستكون من نصيبه ونصيب زملائه، والتي سيقوم بها النائب والمدرس ومساعد الأستاذ. همه كله كان موجها لتلك الحالة النادرة التي جاءت إلى العيادة الخارجية منذ شهرين، وأبدى الأستاذ اهتماما خاصا بها؛ فلقد زاول - الأستاذ - الجراحة حتى أصبحت العيادة الخاصة تدر عليه دخلا يكفيه مستمتعا مدى الحياة. ولم يكن يأتي إلى المستشفى الحكومي الكبير إلا ليلتقط بين الحين والحين حالة تشبع مزاجه الخاص، كجراح أصبح لا يزاول الجراحة لشفاء الآخرين بقدر ما أصبح يزاولها لفن الجراحة نفسه، ليضيف إلى أمجاده فيها مجدا جديدا، ويصل إلى أرقام قياسية لعدد ما أجراه من عمليات. وحبذا لو استطاع أن يجري هنا في مصر عملية لم يسبقه إليها جراح آخر، ويتيه بعرض ما قام به في المؤتمرات، ويتلذذ وهو يقرؤها منشورة في مجلات الجراحة في أوروبا وأمريكا. ولا أحد باستطاعته أن يستغرب هذا أو يلومه؛ فقد وصل إلى مكانة أصبح فيها هو الجراحة، وما يقوم به ليس مجرد تطبيق، وإنما هو تجارب يضيف بها إلى العلم وإلى تراث البشر، ولا ضرر أن يفعل هذا لمجد ذاتي يناله؛ فما من فائدة للعلم أو للبشر إلا والدافع إليها متعة ذاتية.
هذه السيدة بالذات جاءت إلى العيادة بشكوى بسيطة، مجرد خدل في ساقيها وإحساس بالتعب السريع إذا مشت طويلا.
ويومها أزاح الأستاذ أدهم النائب وهو يقوم بفحصها، وفي دقائق كان قد انتهى من فحصها، وكعادته نطق بالتشخيص: ورم خبيث في العمود الفقري، وعلى وجه الدقة سرطان في الغضروف مكانه بين الفقرة الرابعة والخامسة للبطن. كان من رأيه أن الاعتماد على الفحوص والمعمل في التشخيص مسألة تحيل الجراح إلى آلة حاسبة، أما الجراح الحقيقي فهو الذي بمجرد الفحص يشخص، وإذا لجأ إلى المعمل أو الأشعة، فإنما ليتأكد فقط من تشخيصه، وليكتسب الثقة بنفسه أكثر وأكثر.
وهكذا أدخلت الحالة ليس لعلاجها أساسا، وإنما لإجراء الفحوص وليثبت بها الأستاذ أدهم لنفسه ولمجموعة الأطباء التي تعمل معه أنه كان على حق، وأن رأيه أبدا لا يخيب.
ولم تكن هذه أول حالة تدخل القسم لهذا السبب، فما أكثرها من حالات لا يتعجب أحد لإدخالها لمجرد البرهنة على صحة التشخيص! فالأستاذ أدهم لا يفعل في الحقيقة إلا أنه يزاول حق التميز، ذلك الحق الذي يحلم جميع العاملين معه - جميع الطلبة والخريجين - بالوصول إليه.
ومكثت السيدة بالقسم شهرين، وأجريت لها عشرات الاختبارات والتحليلات وصور الأشعة، ومع هذا ظل الورم الصغير الذي بالكاد تلمسه الأصابع في قاع بطنها لغزا لا حل له. ولم تكن قد بقيت إلا وسيلة واحدة لحل اللغز، أن تجرى لها عملية استكشاف فيفتح البطن، ويفحص الورم، ويصل الأستاذ في أمره إلى قرار.
4
Unknown page