قال مندهشا: الفرن؟!
قلت ضاحكا: نعم، جمعتها أمي مع مسودات قصص أخرى سخيفة، ومسرحيات ساذجة، وألقتها في الفرن. كانت حجتها أنها تعطلني عن المذاكرة، وأن الفائدة الوحيدة منها هي أن تشعل بها النار وأن تصير إلى الرماد، وتتحول إلى التراب الذي جئنا منه وإليه نعود.
سأل وهو يفتح عينيه على اتساعهما: هل معنى هذا أنك لم تواصل قول الشعر؟
قلت كأنني أحكي قصة خطيئة كبرى: أنا لم أتخل عنه إلا بعد أن تخلى عني ... لكن الشعر كما تعلم لا يغادر العظم واللحم الذي سكنه ذات يوم. بقيت منه الشاعرية التي كانت وراء ترجماتي ودراساتي التي لا آخر لها للشعر. لقد عجزت مع بلوغي العشرين عن كتابة قصيدة واحدة، بعد أن تهت وتورطت في المتاهة ...
قال وهو يقترب مني مستطلعا: تهت؟ ومتاهة؟ ماذا تقصد؟
قلت كأني أتذكر، أو كأني أعترف: نعم، شدتني الحكمة من يدي، فتهت منذ شبابي الباكر في صحراء العقل المجرد. راح الحكماء من الغرب والشرق يجذبونني إليهم واحدا بعد الآخر، فأنساق وراءهم وأدخل بيوتهم وصوامعهم وأعيش مع أفكارهم وتجاربهم، وأكتب وأكتب، أو أترجم عنهم. كنت أغوص في الصحراء اللافحة فيزداد عطشي مع كل خطوة، وكلما لاح سراب من بعيد، جريت نحوه وتصورت أنه واحة أستظل بها وأستريح من وهج القيظ ومرارة الحرمان، فأحاول أن أرجع إلى النبع المنسي.
سأل مندهشا: النبع المنسي؟
قلت: أجل. النبع الأصلي الذي كانت تشغلني عنه المهنة التي تورطت فيها، ولقمة العيش التي لم يكن منها مفر، وزحام المعرفة والثقافة الذي كنت مضطرا للمشاركة في أسواقه الصاخبة ... هل فهمت يا عزيزي الغائب الحاضر؟
هز رأسه آسفا، وقال: وماذا كنت تريد من ذلك النبع؟
قلت متعجبا: وماذا يطلب المرء من النبع الطاهر النقي؟ أن ينهل منه ويغتسل من رماد العالم، ويجد ذاته الضائعة ...
Unknown page