17

Mutawali Salih

المتوالي الصالح

Genres

فحيته وشكرت الله على سلامته، فأجابها بأحسن تحية، وقال: وهل مثل هذا الموقف لا يعيد الحياة إلى الموتى، فكيف بي وأنا أراك واقفة أمامي وقد اجتمع ما تمناه الشاعر مما ينفي عن القلب الحزن ويطرب له الفؤاد.

قالت: هذا ما خطر لي حينما رأيتك واقفا أمام الماء في ظل هذه الصفصافة الغضة ينبعث السرور من محياك، فهل هذا لأنك مفارقنا عن قريب أم عادت إليك العافية فسررت، وحسن لديك منظر بستاننا الصغير.

قال: بل كل شيء عندكم جميل والطبيعة تحب التناسق، وكأن الله شاء أن يجمع في بيتكم وما حوله جمال ما صنعت يداه، والآن اسمحي لي أن أبشرك بأن أباك رضي أو قد يرضى بإرسالك إلى المدرسة، وتعهد الشيخ صالح بإقناعه، وأنا تعهدت بتدبير المدرسة وتسهيل وسائل التحصيل.

قالت: سمعت ما دار بينك وبين الشيخ بالصدفة، فجزاكما الله عني خيرا، وإن والدي لم يعد يهتم بذلك الغني الشرير الذي طالما ألح علي بقبوله، فإذا وفقني الله ودخلت المدرسة كنت أسعد الفتيات.

لا أستطيع الوقوف هنا طويلا، ولكنني غدا سأراك على انفراد؛ لأن أبي وشقيقي ذاهبان إلى بعلبك بدعوة خاصة لحضور عقد زواج نسيب لنا هنالك، وربما صحبتهما والدتي أيضا فأستودعك الله إلى اللقاء، وسارت يتبعها بنظراته وأفكاره وفؤاده الملهوف، وهو يسمع خرير المياه ولا يرى أمامه إلا شكل المحبوب يملأ الفضاء، مضى ذلك اليوم وكأنه جيل على سليم. وفي صباح اليوم التالي، بينما كان منفردا في غرفته يفكر في لقاء هيفاء، إذا به يسمع وقع حوافر الخيل، فأطل من النافذة ورأى ثلاثة جياد، فعلم أن الوالدة ذاهبة أيضا فرقص قلبه لذلك، وما ابتعد وقع حوافر الخيل حتى أقبلت هيفاء عليه، وكانت هذه المرة أجمل في عينيه من كل مرة أخرى فنهض مسلما، وقال: «يعز علي أن أفارق هذا البيت قريبا، ولكنني سأترك فيه فؤادي الذي لا يستطيع مغادرة العمروسة، ومتى حرمت الفؤاد فماذا بقي مني؟ أواه! ليتني أستطيع أن أبقى هنا أراك إذا سرت، فأطرب لرؤياك وتلذ لي الحياة بقربك، فالوداع الوداع، لقد قضي علينا أن نفترق بجسمينا، وأما قلبانا فسيبقيان مجتمعين وروحانا متمازجين إلى أن نجتمع بعد القبر حيث لا فراق، أو يجمعنا التوفيق حيث يحلو اللقاء، قاتل الله التقاليد فإنها فرقت بيننا وحرمتنا لذة الاجتماع وسعادة الحياة.» فأجابته هيفاء: «سنفترق عن قريب، وقد يكون هذا الاجتماع آخر فرصة تسنح باللقاء، ولكن ثق أن هيفاء لا تنساك وتنسى هذه الأخلاق العالية، واعلم أنك أنت الذي حببت لي المدرسة، وجعلتني أرى نور العلم الوضاء. وما نفع الحياة مع رجل شرير لا هم له إلا الأكل والشرب، فهو كالبهيم لا يعرف معنى للاجتماع، ولقد اطلعت على مقالات في المجلة التي وصلتك منذ بضعة أيام في الأدب والاجتماع، فصرت لا يطيب لي العيش إلا في وسط من يفهم معنى هذه الأوضاع، فليتك تعدني أن تساعدني على الخروج من هذا المأزق الحرج إذا رفض والدي أن يرسلني إلى المدرسة، وشاء أن يزوجني بذلك البهيم الذي تراه في صورة إنسان، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا، وهل تلام إذا ساعدت فتاة تطلب العلم إذا حققت رغباتها وسهلت عليها السبيل.»

فأجابها سليم متأثرا: «مهلا يا هيفاء، سوف أبذل الجهد في رضاك وعمل ما يسعدك حالا، ولا أرى أصلح من الشيخ صالح لإخراجك من الظلمة إلى النور، فربما يساعدنا على تحقيق الآمال.»

ثم وقف الاثنان، وفي صدر كل منهما نار آكلة، ولكن نفسيهما الشريفتين أبتا عليهما أن يزيدا على ما كان، فمد سليم يده مصافحا، وقال: هل تسمحين لي أن أصافحك كأخ يودع أخته العزيزة عند الفراق؟ فمدت يدها فتعاهدا على ألا ينسى الواحد منهما الآخر حتى الممات، وشعر كل منهما باللهيب المتصاعد من صدر الآخر، ولكنهما لم يزيدا تلك النار استعارا.

الفصل الخامس

الوالدة وابنها

ليس من يجهل رقة عواطف الأم وحنوها وتفانيها في سبيل أولادها، فكيف بها إذا كانت كأم سليم على جانب عظيم من العلم والفضل ورقة العواطف والانعطاف.

Unknown page