جاء تصريح 28 فبراير المشهور عملا من جانب واحد، وكان العمل على هذا النحو تنفيذا لما أشار به لورد اللنبي كعلاج موقوت لصعوبة العمل يومئذ من جانبين؛ فهو مع اعترافه الرسمي باستقلال مصر يحمل في ثناياه كذلك الاعتراف الضمني بأن مشيئة مصر لا تزال تنقصه، وأنه لا يزال خاليا من الطابع الذي يقر إرادتها، ويجمع إلى الاعتراف البريطاني كلمتها، بل الكلمة النهائية التي تضع كل شيء في موضعه، وترد الأمر إلى طبيعته.
وقبل أن تعمل الحكومة البريطانية بمشورة اللنبي كان لورد ملنر قد نبه بلاده إلى أنه لا يمكن أن تكون التسوية مرضية إذا هي كانت مجرد فرض تفرضه بريطانيا على مصر، وإنما الخير والحكمة في البحث عن حل يقوم على اتفاق بين الجانبين؛ أي عمل مشترك من طريق التفاهم والتعاهد والوئام، ولكن الحكومة البريطانية اقتصرت بعد ذلك على العمل منفردة، فكان ذلك التصريح، وكان النقص فيه بارزا في مجيئه بهذه الصفة.
وقد اعترفت بريطانيا في ذلك التصريح بحق الشعب المصري في حياة نيابية وحكم دستوري، وكان هذا الإقرار الضمني فيه هو كل ما يمكن أن ينتفع به، فظلت الأمة على معارضتها وجهادها، وبقيت على موقفها من ذلك التصريح ونقصه وبطلان صفته.
وابتدأ الحكم الدستوري قبل أن يبتدئ الاستقلال، ولكن ذلك لم يقنع مصر ولم يحملها على الاستسلام، وإنما رأت أن تتخذ الدستور طريقا للاستقلال، فحرصت عليه، ورضيت به، وجعلته معبرا عنه، ومظهرا له؛ لأنه نظام حكم الجماعة، ومرآة مشيئة الأمة، ومتجلى إرادة البلاد.
ولم يكد حكم الدستور يقوم في حراسة سعد وبزعامته حتى راح يطبع حياتنا العامة بطابعه، ويتغلغل فيها بكل مؤثراته ودوافعه، ويضفي عليها بكل روحه ومنازعه، فقد استحال سعد زعيم الثورة زعيما للديمقراطية، ولم يكن ذلك غريبا على نفسه، ولا مختلفا وطبيعته، ولا جديدا على تفكيره وخلقه وتكوينه؛ إذ نشأ من عرض الشعب، وقاد الشعب في الثورة، واتصل بروح الشعب في مسرى كهرباء حسه، ولهيب نفسه، وشعلة وجدانه، ونادى الشعب إلى حقوقه، وليس من بينها ما هو أكبر ولا أبرز من حق حكمه بنفسه، وتدبير شئونه بذاته، وتصرفه في أمره حرا طليقا لا مرد لمشيئته.
سعد ومصطفى في البرلمان.
وبفضل سعد وديمقراطيته العميقة فيه، وابتدائه الحياة الدستورية أحسن مبتدأ، ووفرة الاستعداد في كثير ممن حوله للنبوغ في الحياة النيابية، والتفوق والبروز في النظام الديمقراطي، لم يطل الوقت حتى أدرك كل مصري حتى العائشين في صميم القرى وسواد الريف، أن الحكم الدستوري هو وحده الذي يبرز وجوده، ويعبر عن إرادته، وأن حكومة الجماعة هي خير وأصلح من حكومة الأفراد؛ لأنه في الأولى يستطيع أن يقول: حقا «إنني أنا الذي أحكم؛ لأن إرادتي هي المملية، ومشيئتي هي الحاكمة، ورغبتي هي الأمر النافذ والسلطان المطاع».
لقد أصبحنا من ذلك العهد نعيش في عصر دستوري، بل نحن اليوم جيل ديمقراطي بكل روحه، ومعنوية وجوده، حتى في الفترات التي احتجب الدستور فيها، وتحت حكم لا يستند إليه؛ إذ جازت الحياة المصرية دور الاختبار بالنسبة لأنواع الحكم الصالحة لها، وانتقلت إلى دور اليقين بأن النظام النيابي هو النظام الأمثل لها، ونوع الحكم المتمشي مع طبيعتها، المظهر لسائر وجوه إرادتها؛ فهي لا تستريح، ولا تهدأ، ولا يستتب الأمر بها، إذا ما اعتدي على هذا النظام، أو نزع منها إكراها وإرغاما بالقوة الغاشمة.
وقد يعرض نوع من الحكم يجيز الحريات العامة ويرد المظالم، ويسير بالعدل بين الناس، ويلتزم المبادئ الدستورية؛ ولكن ذلك كله لا يجعل الحياة المصرية مستريحة إليه، ولا يغريها بالسكون إلى غيبة النظام النيابي نفسه، إذ مهما تكن الحكومة حسنة، فلا تغني مزاياها عن روح العصر ، وهو الدستور؛ ولا يمكن أن تكفل جميع مطالب الديمقراطية الصحيحة التي لا سناد لها ولا قوام إلا بالنظام النيابي الذي يبرز مشيئة المجموع.
وقد يكون عهد مصر بالنظام الدستوري قصيرا، لم يتجاوز من الوقت الذي نحن بصدد منه إلى اليوم اثني عشر عاما، تخللتها فترات حورب فيها وهو قائم، وأخرى اعتدي عليه فيها فغاب واحتجب، وفترات غيرها انتهكت فيها قداسته، فوئد أو مزق تمزيقا، ولكنه على قصر عهده لم يقع للبلاد غنيمة باردة، ولم يتهيأ لها محض مصادفة، ولم تذهب في بعض الطريق فعثرت عليه لقى، أو التقطته على القارعة التقاطا، ولكنها جاهدت من أجله وحاربت، وناهضت حكومات عديدة قبله وأسقطت، وقد وقع لها الدستور غاليا، واشترته بثمن، ولكن من الدماء؛ وأصابته، ولكن بمخاض العذاب والآلام وصنوف البلاد.
Unknown page