وكان هذا التناسب بين الزعيمين في بداية الحياة العملية نادرا في تاريخ الزعامات المجاهدة، ولكنه وقع في هذه الناحية على ندرته ليؤدي معنى جليلا، وهو الاشتراك في التجربة ذاتها لمعرفة الحقائق المتصلة بالحياة نفسها، حتى يبلو كل منهما عند صاحبه ما يجده هو في ذات صدره وخاطره، فتتكون منهما وحدة فكرية يتفاهمان بها أحسن مما يتفاهم الناس وهم متماثلون متشابهون في الذهنية والاتجاه العقلي ومنحى النظر والتفكير.
وبهذه المبادئ نفسها دخل مصطفى النحاس دائرة القضاء كما دخلها سعد من قبله، لتحقيق المعنى ذاته، وتجربة الاستعدادات والملكات المشتركة بينهما، واستكمال التماثل الذهني بينهما قبل أن يتلاقيا في الثورة؛ فيجد سعد نفسه تهوي إلى هذا الرجل أكثر من سواه، وتنجذب إليه أشد ما يكون الانجذاب بين النظائر والأشباه.
ولو لم تستبق الثورة، لكان من المرجح أن يروح مصطفى وزيرا على دورة السنين ، أو يبلغ في القضاء عليا مناصبه على أقل تقدير؛ ولكنه لبث في القضاء قرابة خمس عشرة سنة، ولم يتول منصبا سياسيا فيها، ولم يلجئه الارتباط بتكاليف المنصب السياسي والقيام في غمرة تيار الحياة الرسمية إلى الاشتراك في أغلاط الحكم يومئذ ومساويه تحت الاحتلال، وإنما لزم موضعه من القضاء مستقلا فيه، فإذا ما اصطدم بسلطان خصوم الاستقلال، احتمى بجلال القضاء وضرورة بقائه بمنجاة عن أي عبث أو تدخل، واعتمد على قوة خلقه وإبائه والتزامه جانب الحق والعدل والواجب في تنفيذ مشيئته، واحترام كلمته، وسلوك نهجه، في حزم دون تهور، وشجاعة دون حمق، واتزان بغير تسرع ولا إحجام، وثقة دائمة بالله اكتسبها من النشأة بالصلاة والعبادة والنزاهة والسير على صراط مستقيم.
لقد كان بعده من الوظائف وهو محام، ثم سلوكه دائرة القضاء يوم أكره على الوظائف إكراها، مزية كبيرة أنبتت في أعماق نفسه روح الاستقلال والتزامه والحرص عليه بكل شجاعته ونزاهته وإقدامه؛ لأنه سوف يوكل على السنين بأكبر قضية من قضاياه؛ قضية استقلال أمة صممت على كسبها، ولم يبق إلا أن يبرز لها جماعة المحامين المدافعين المخلصين المشربي النفوس بروح الحق والعدل والواجب؛ ليسيروا بها رغم الصعاب والمشاق إلى معاركها الفاصلة، وأدوارها الحاسمة، ونجاحها المؤكد، وفوزها الوثيق.
لبث مصطفى النحاس في وظائف القضاء زهاء خمس عشرة سنة - كما أسلفنا عليك - يعطي من قضائه أروع الأمثلة على النزاهة، ومبالغ احترام الحق، والتمسك بالعدل، والتشبث بالواجب، ويعيش عيشة موظف معتدل الراتب، هو كل معتمد عيشه، ومساك حياته، لا يستمتع منه بترف، ولا ينعم منه بغير الرغد المكفول من الاستقامة، والهناء الموفور من الرضوان بالكفاف، ويقوم على تربية أولاد أخته، وكانوا يومئذ أحداثا وأصبية في المدارس، وهو الحاني الحدب عليهم، الرقيب على دراستهم؛ إذا احتاجوا إلى معلم خاص كفله لهم، وإذا أرادوا ما ينفعهم ويجدي على دراستهم لم يتردد في توفير أسبابه لهم، في بلاغة الحنان القوي المشرف الرقيب، لا حنان الضعف والرأفة المؤذية ومفاسد التدليل.
كان مصطفى النحاس يعيش في ذلك الدور من حياته عيشة بسيطة راضية، وكان آخر عهده بالقضاء في طنطا رئيس دائرة، وقد اعتاد أن يذهب إليها كل يوم من القاهرة، ثم يعود منها بعد الفراغ من عمله؛ إذ كان يسكن في منزل متواضع بحي شبرا، تنزل به السيدة الكريمة شقيقته لتقيم مع بنيها إذا هي تركت سمنود إلى حين.
ولئن كان مصطفى قد أخلد في ذلك الدور إلى عمله في القضاء، فلم يكن منقطعا مع ذلك عن الحياة العامة، ولا منصرفا عن متابعة سيرها، وتأمل أحوالها، ومراقبة أطوارها؛ لأن وطنيته كانت تعتمل في نفسه، وحاسته القومية تختلج في صدره، وشعوره بالظلم الواقع على بلاده، الماثل لعينه في كافة نواحي وطنه، كان يستنفر فيه غضبة القاضي بجانب ألمه الوطني، ويثير في نفسه النفور والتأذي والتذمر، فيدور بعينه يلتمس سبيلا إلى التنفيس عن صدره، والترويح من مبالغ ألمه وكظمه، والاشتراك - ولو من بعيد - في الدفاع عن بلاده.
كان هذا الدور في حياة مصطفى النحاس دور الوطني المتألم لبلاده، رأى حركة مصطفى كامل وجماعته فأعجب بها، واطمأن إلى قيامها، وجعل يشجعها رويدا، ويدنو منها على كثب دون أن يسلم إليها نفسه بكليتها، أو يظاهرها بصراحة مظاهرتها، وإن اتصل برجالها وعرف أفرادها، وتبادل معهم الرأي، وتجاوب إحساسه مع إحساسهم، واتحدت نفسه مع نفوسهم، في وحدة شعور، وتماثل عاطفة، وتقاسم ألم لوطنهم المغتصب السليب.
مصطفى النحاس في عهد الثورة
في أواخر هذا الدور جعلت العناية الإلهية تمهد فيه للغد القادم، وتعد معدات اليوم المحتجب وراء أستار الغيب، فأخذ مصطفى النحاس يظهر في الساحة العامة، ولكن على قدر، ويختلط بالمشتغلين بالمسائل السياسية، ولكن في حزم واتزان، وكان لا بد من التعرف للشباب، والبروز في ندواتهم، والظهور في أوساطهم؛ لأنهم في حساب الطبيعة كانوا عدة الثورة وجهازها، ومواكبهم ستروح غدا مهرجان زفافها وأعراسها؛ فاتصل بطلبة المدارس العالية، وكان وكيلا لناديهم، وهو يومئذ مجتمع الشباب المتحمس ومهطع الوطنية الشابة الفتية، وأتون العاطفة العامة المتقدة، ومركز المجتمع الذي تحتشد لديه جميع قوات الغد القريب.
Unknown page