لشاعر الأقطار العربية الأستاذ خليل مطران (1)
مات عبده فمات فن وزال آخر شعاع من عصر توارت شمسه في ظلمة الأبد، فقد كان إسماعيل شمسا في سماء مصر. وكان كل ذي شأن من معاصريه ككوكب يستمد منه نوره. فلما أفلت لحقت بها تلك الأنوار يتلو بعضها بعضا إلى أن تم الزوال بوفاة صداح تلك العظمة الشماء وغريد ذلك الملك العظيم.
وكثيرا ما كان عبده يبكي لحنا من ألحان ذلك العهد فيمثله لنا من خلال مدامعه الجارية ونغماته الشجية، كأنه زينة منارة بألوف المصابيح حافلة بجماهير الفرحين الطروبين. وكأن مصر دار ذلك العرس تضحك بالأنوار لمستقبلها العابس. وكأن الأمير أمير الزمان يومه وغده. وكأن الوفود من عرب ومن عجم أعوان دولة تشاد. وإنما كانوا هدمة أمل رفيع العماد. وكان «عبده» من على أريكته بشير السعادة الخالدة في ذلك الاستقلال الزائل. فإذا فرغ من إنشاد صوته ورجعنا إلى أنفسنا نظرنا حولنا فرأينا دولة اليوم ورجال هذا الزمن. ولم يثبت لدينا من حقيقة ذلك الحلم الرائع إلا ذلك المغني المنتحب على حال حالت. ونعمة زالت، ودولة دالت. ولقد كان في مصر قبل انقضاء هذه الأشهر الأخيرة مغنيان هما «عبده» «وعثمان» فاليوم نحن ولا مهنئ في الفرح، ولا معزي في الترح، إلا ما كان من قبيل رجع الصدى الذي يتردد حينا بعد هتاف الهاتف.
كان عبده مبتكرا يخلق اللحن خلقا من حاضر ما يوحي به إليه فيحير به المهرة ويطرب السامعين ما يشاء التطريب بالنغمة والإعجاب بقدرة مبتدعها. وربما كسر القيد ونقض القاعدة وند عن المألوف فطار وحلق. وقد بكم العود، وعي القانون، وأنصت الناي، مطلقا صوته يمرح في سماء التطريب. فمن وثبة النسر إلى انحدار السيل، إلى خطف البرق، إلى تغريد القمري، إلى نوح الحمامة، إلى أنين الجدول. كل هذا والصوت عال منخفض جهوري خافت، رنان مرتجف، مشبع ضئيل، والنغمات تجتمع أصولا وتتفرق فروعا، وتنثني وتتفرد وتتدانى وتتباعد وتتواصل وتتفاصل مفضية بعضها إلى بعض، متسلسلة على مقتضى سلامة الذوق والمهارة الفنية منتهية إلى القرار.
شاعر القطرين الأستاذ خليل مطران.
وكان «عثمان» مؤلفا بارعا في ترتيب الألحان. بصيرا بأخذ النغمات من مواضعها وجمعها على نسق مستحب، كلفا بصناعته جادا في إتقانها إرادة أن يستعيض عن طلاوة الصوت بحسن الأسلوب ولطف السياق. ولهذا كان لا يغني منفردا. ولا يطلق صوته إلا على أجنحة الآلات. فإذا لحن أغنية وأسمعها الناس لأول مرة خرجت متقنة صحيحة الوضع رائعة للسمعه. ولكن يبدو عليها أثر إعنات الفكر ويشتم منها ريح الشمع المذاب في السهر على تخريج أجزائها، وتوجيه ضروبها، والملاءمة بين رناتها ومعانيها. على أن هذا لا ينفي أن «عثمان» كان ضريب «عبده» وأنه أثبت بنتيجة عمله أن لحسن التأليف مكانا بجانب الابتكار، وأن للاجتهاد منزلة قد تعادل منزلة الاختراع. بل إن المجتهد قد يكون ذا فضل على المخترع بما يهيئه له من مواد الابتداع. ومن الحق أن يقال إن «عثمان» كان في أخريات هذه السنين واضع معظم الألحان فيأخذها «عبده» عنه ويكسوها من الحلل والحلي ما تشاء بديهته الخاصة به، فبينا هي سوقة حسان إذا هي ملكات بتيجان. وبينا هي أشخاص ترمقها عيون المعجبين، إذا هي أرواح تتنسمها قلوب المحبين.
وعلى هذا كان «عثمان» يجدد للناس روح «عبده» و«عبده» يسمع الناس علم عثمان فهما العاملان المتكاملان أحدهما بالآخر على ما بينهما من تحاسد وتباغض وتباعد.
هذه صفة «عبده» مغنيا وتلك منزلته التي لم يدانه فيها من أرباب فن الموسيقى إلا «عثمان».
أما أخلاقه فكانت أخلاق كرام الناس، وبها شرف قدر مهنته التي كانت إلى عهده تعد من المهن الوضيعة. فقد كان أنيس المحضر، كارها للغيبة، راغبا في مجالس الظرفاء المتأدبين، محدثا ذكيا لا تفوته شاردة ولا واردة من طرف الكلام، جوادا جود الأمراء، متلطفا وديعا كأنه أبدا في حضرتهم وفيا لأصدقائه لا يضن عليهم بما فيه نفع لهم ورضى، مجاملا لذوي فنه، محسنا إليهم لا يبغض منهم إلا من ركب الدنايا وأخل بما يسميه شرف الحرفة.
ولو كتب الله له فسحة في الأجل لعاش عيشة مقيدة بنظام. ولكنه كان مطلق هوى النفس كما هو شأن النوابغ، ولا شك في أن نعم الله الكثيرة قد حسبت عليه رحمه الله رحمة واسعة. (2)
Unknown page