لما زاد فيضان النيل سنة 1870 وهدد ثلاث قرى في القطر بالغرق أمر الخديو إسماعيل بأن تكسر الجسور بين أطيانه الخاصة فغمرتها المياه وسببت له أضرارا قدرت بأربعة ملايين فرنك. فآثر نفع الفلاح على نفعه، وضحى بأطيانه في سبيل حماية الفلاح من الأذى الذي كان سيناله من الفيضان.
وتبيانا لتشجيعه التجار المصريين وإيثارهم على الأجانب في جني الأرباح، ولو كانت من ماله الخاص اجتزئ من تاريخ المرحوم: إلياس الأيوبي بإيراد ما يأتي بحروفه: «ومن أفضل ما يحسن ذكره بمناسبة أفراح الأنجال أن طه باشا الشمسي - ناظر الخاصة الخديوية في ذلك الحين - وهو حمو حضرة صاحب المعالي أحمد طلعت باشا - رئيس محكمة الاستئناف الأهلية الآن - كلف عدة محال تجارية بتقديم مناقصات لتوريد كل ما يلزم من فرش وبياضات ودنتلات ورياش لجهاز كل من الأميرات العرائس. فلما قدمت، وقع اختيار طه باشا على مناقصة محل باسكال الفرنسوي، ويعرفه كل من زار مصر القاهرة حتى سنة 1892، لأنها على جودة البضاعة المقدمة نماذج منها كانت على رخص في الأثمان يرغب فيه . ولكنه لما عرض ما وقع اختياره عليه للخديو إسماعيل سأله الخديو «ألم يتقدم في هذه المناقصة محل مصري وطني مطلقا؟»، فأجابه طه باشا «نعم يا مولاي» فقد تقدم ضمن آخرين محل مدكور، ولكن الأثمان التي عرضها مبالغ فيها لا توافق، لأنها تزيد خمسة وعشرين في المائة على الأثمان التي يطلبها محل «باسكال»، فقال الخديو إسماعيل «أرني مناقصته والنماذج المرفقة بها»، فقدمها طه باشا، فوجد الخديو إسماعيل أن الأثمان المكتوبة على تلك النماذج تزيد حقيقة خمسة وعشرين في المائة على ما يطلبه محل باسكال، لكنه وجد أن نوع البضاعة واحدة عند الاثنين، فضرب بمناقصة محل باسكال عرض الحائط، وقال لطه باشا «خذ كل ما نحن في حاجة إليه من محل مدكور وادفع له خمسة وعشرين في الماية فوق ما يطلب. فبدا في عيني طه باشا استغراب بالرغم من أن فمه نطق بعبارات الامتثال. فقال الخديو إسماعيل له «يا طه باشا إذا كانت المحال التجارية المصرية لا تنتفع ولا تستفيد من أفراح أولادي. فمن أفراح من تريد أن تستفيد وتنتفع؟» فاغتنمها محل مدكور وهي طائرة، وزاد على أثمان كل ما قدمه ما أمكنه زيادته. فكان ذلك من أسباب الثروة التي أحرزها ا.ه.
أفراح الأنجال
أقيمت ابتداء من يوم 15 يناير سنة 1873 الأفراح البهيجة احتفاء بزواج الأمراء: توفيق وحسين وحسن أبناء الخديو إسماعيل، من ربات الصون والعفاف الأميرات: أمينة هانم بنت إلهامي باشا ابن المغفور له عباس الأول، وعين الحياة هانم بنت الأمير أحمد باشا ابن المغفور له إبراهيم الأول، وخديجة هانم بنت الأمير محمد على الصغير ابن رأس الأسرة المحمدية العلوية المغفور له محمد علي باشا الكبير، وزواج أختهم الأميرة: فاطمة هانم بالأمير طوسن ابن المغفور له محمد سعيد باشا ودامت أربعين يوما كاملا، باعتبار عشرة أيام لكل عرس من الأعراس الأربعة، ولا يزال للآن ذكر محاسنها يسير في الآفاق. ولذلك قد زينت العاصمة بأبهى الزين، ورفعت أقواس النصر في أهم الميادين. وأقيمت الأكشاك والمنصات للجوقات الموسيقية ولتخوت المطربين والمطربات. وفي مقدمتها تخت المرحوم: عبده الحمولي الذي إذا أنشد نقل بنغماته الساحرة من سمعه إلى جنة الخلد. وتخت (ألمظ) التي فتنت العقول برنين صوتها الرخيم، ناهيك بأشهر الراقصات المصريات، وفي مقدمتهن صفية وعائشة الطويلة، اللتين استعبدتا القلب والنظر فيما قاما به من حركات وتموجات ورشاقة وخفة.
ميثاق الخديو إسماعيل
ومما يحسن إيراده تفكهة للقارئ وبيانا للحقيقية بمناسبة تزويج الأمير: حسن، من الأميرة: خديجة، أن الخديو إسماعيل حينما أدخلها المدرسة المعدة للأميرات، وتبين من فحوى كلامها توقد ذهنها وسرعة إدراكها وعدها بالزواج من أحد أولاده إذا اجتهدت في طلب العلم. فعن له يوما أن يزور تلك المدرسة ليتفقد حال الطالبات فيها، فلما وصل إلى الأميرة خديجة، سألها قائلا «إلى أين بلغت من تعلم القرآن يا ابنتي؟» فأجابته من فورها وقالت «واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد»، فسر الخديو وارتاح لجوابها وقال لها: «نعم. نعم» ثم بر لها بوعده. فلا غرابة في لطيف إشارتها إلى سابق وعده وما بان له فيها من فرط الذكاء وهي دون البلوغ، لأن البنت أفطن من الولد بطبيعة الحال إلى السنة الثالثة عشرة من العمر؛ حيث يقف ذكاؤها عند هذا الحد لأسباب طبيعية ولا يتعداه خلافا للولد، فإن ذكاءه يطرد نموه ويسير نحو تمام الإدراك على ما أثبته (هربرت سبنسر) في كتاب: «التربية». على أن معنى إسماعيل: مطيع الله، كما ذكره صاحب القاموس. وفي شفاء الغليل قال السبكي «ويستحب لمن رزق ولدا في الكبر أن يسميه إسماعيل اقتداء بالآية. ولأن معناه عطية الله». فإذا توارت شمسه وراء الأفق، فإن أشعتها - كما قال فكتور هوجو - لا تزال ساطعة الأنوار.
وبالجملة، فقد كان عصره عصر رخاء وجذل، وكان ديدنه ومذهبه توثيق عرى المصافاة بين قومه، وبذل النفس والنفيس في سبيل ترفيه نفوسهم وترقية عقولهم لما أنه كان من أحب الناس إلى المسالمة التي بها كان يحقق رغائبه. وكان جديرا بأن ينطبق عليه المثل القائل
Son métier était Roi .
الفصل الثاني
أصل الموسيقى
Unknown page