وتعانق العلماء مع الأحبار رمزا إلى تعانق الصليب بالهلال، وتجلى روح التعاون والمحبة بأجلى معانيه أمام ملوك الغرب، مما دحض زعم رديارد كبلنج القائل بأن الشرق والغرب ضدان لا يجتمعان، وظهر للعيان أن أبناء النيل تحت حكم الخديو إسماعيل مصريون مهما اختلفت عقائدهم الدينية، وتباينت نحلهم. وأصبحت الصحراء القاحلة مزارع خصبة بفتح القنال الذي جنت منه مصر فوائد جمة مادية وأدبية وسياسية تزداد كل يوم بازدياد الصلات، وتوثيق عرى التعاون بين الشرق والغرب. هذا فضل من أفضاله ومأثرة من مآثره فإن لم يكن له سواهما لكفى.
الإمبراطورة أوجينيا على ظهر الهجين.
على أن الملوك زائريه قد استعرضوا أجناسا من الأمم ونماذج مختلفة تقع تحت حكمه السعيد ابتداء من الإسكندرية إلى خط الاستواء ممن حضروا هذا المهرجان من الوفود من الفلاحين والصعايدة، وقبائل العرب، والسودانيين لابسين على رؤوسهم العقال والطرابيش والعمائم والطواقي واللبد، وهم يلعبون على صهوات خيلهم العربية المطهمة على أصوات مزمار الفناجيني الدمياطي، ويركبون أسنمة الهجن وظهور الحمير للسباق على أصوات الرباب ودقات الطبول البلدية، وقد آثرت الإمبراطورة في الذهاب إلى القصر على ضفة الإسماعيلية، والإياب منه بركوب الجواد والهجين على العرب الأوربية.
ومن دواعي الأسف الشديد أن مصر لم تقم للخديو إسماعيل اعترافا بفضله بجانب تمثال فردينان دي لسبس تمثالا له في قنال السويس الذي حفره بأرض مصر برجال مصر. وقد أميط الستار عن وجه تمثال الثاني باحتفال فخم في اليوم السابع عشر من شهر نوفمبر سنة 1899 الذي يماثل اليوم الذي احتفل فيه بفتحه. حقا إن ذلك قد وقع ذهابا إلى الحكمة المأثورة القائلة بأن لا نبي يكرم في بلده.
تمثال فردينان دي لسبس.
والأدهى من ذلك أن الخديو إسماعيل لما عمد إلى إلغاء السخرة - التي كانت حجر عثرة في سبيل القيام بأعباء الزراعة - تصدت له الشركة، واضطرته إلى سحب أمره إنجازا للعمل وطبقا لما هو منصوص عليه في عقد الاتفاق بينها وبين سلفه المغفور له سعيد باشا سنة 1854، وليت المسألة وقفت عند هذا الحد، بل طالبه نابوليون بدفع مبلغ 1250000 جنيه ترضية له جزاء دفاعه عن الفلاح المسكين وميله إلى تخليصه من السخرة التي وجد ألا مسوغ لبقائها في عصر المدنية، وهي من بقايا الظلم في عهد الفراعنة في إبان بناء الأهرام، ورفع المسال الذي امتدت أغصانه حتى عهد المماليك، الذين كانوا يستعبدون الرعية وينهبون أموالهم. على أنه من جهة أخرى استعاض عن هذه الغرامة الفادحة بأن استرجع من شركة القنال أرضا مصرية في وسط الصحراء تمتد إلى حدود الدلتا يقدر مسطحها ب 60000 هكتار أرادت أن تغتصبها لنفسها، وانتهى بضمها إلى أملاك الوطن. وقد قدرها نابوليون آنئذ بمبلغ 30000000 فرنك أي 1200000 جنيه. ولا يعزب عن بال الباحث المنصف أن لهذا المجهود العظيم قيمته الأدبية غير الملموسة، فضلا عن قيمته المادية الواضحة بما يسجله له التاريخ بالفخر المبين بين ما قام به من عظائم الأعمال.
ومما لا ينكره عليه المغرضون أن العمارات التي شيدها، والقصور الفخمة التي بناها قد انتفعت بها الحكومة على توالي السنين بأن اتخذتها مقرا لمختلف الوزارات ومركزا للمصالح الحكومية والمعاهد العلمية والفنون الجميلة.
الإمبراطورة أوجينيا.
وقد نزع إلى تقريب المسافات وتسهيل المواصلات، فبنى 426 كوبريا منها 276 في الوجه البحري و150 في الوجه القبلي، وحفر 112 ترعة أهمها ترعة الإسماعيلية البالغ طولها 98 كيلومترا وحفرها 11 مليون متر مكعب، وترعة المحمودية، وترعة البحيرة مما أدى إلى إصلاح نحو 1373000 فدان من أراضي الصحراء أنتجت ما تقدر غلته ب 11000000 جنيه أو ريعا سنويا قدره 1400000 جنيه، ومما يؤيد ذلك ما جاء في كتاب: (بيتر كارابيتس) القاضي عن أدون دي ليون القنصل الأميركي في سنة 1875 حيث قال ما يأتي بنصه وحرفه «إن التصليحات والتحسينات والأشغال العمومية التي شرع فيها الخديو إسماعيل، وأنجزت فعلا في مدة الأثني عشرة سنة في مصر كانت مدهشة وعجيبة، ولا مثيل لها في أي قطر من الأقطار، بلغت مساحته أربعة أضعاف مساحة القطر المصري وسكانه أربعة أضعاف سكانه».
تضحية الخديو إسماعيل وتشجيعه للتجار المصريين
Unknown page