Mushilat Maca Ghuraba
مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق
Genres
ثمة حبكة ثانوية في أسطورة كلايست تتعامل مع الواقعية الأدبية بازدراء أكبر من الحبكة الرئيسية. وقد تجاهلها بعض الباحثين على هذا الأساس، لكن هذا التجاهل ينم عن قصر نظر بالغ؛ فهذه الحبكة الثانوية الرائعة - التي تأبى أن تكون مقبولة واقعيا - تدور حول قطعة من الورق جاءت في حوزة كولهاس مكتوب عليها نبوءة بخصوص المصير المستقبلي لحاكم ساكسونيا، الرجل الذي خدع تاجر الخيل بعرض العفو عنه ونكث وعده. يعلم الحاكم بوجود قطعة الورق، وإن لم يعلم ما كتب عليها، ويحاول جاهدا الحصول عليها؛ فهي كما يشير أهم عنده من حياته. وتعذبه فكرة أن كل هذه المعلومات ستختفي باختفاء مالك الورقة الذي يوشك أن يرسل إلى العالم الآخر، ويحضر إعدام كولهاس ليستعيد الورقة من جثته. أما كولهاس فبعد أن نبه إلى هذا المخطط مسبقا فيسير إلى الحاكم المتطلع في فضول في لحظة موته ذاتها، وينظر في عينيه بثبات، ويخرج الورقة من قلادة مدلاة في رقبته ويقرؤها ويبتلعها.
ليس من الصعب أن نرى النبوءة المكتوبة نموذجا للأمر الذي يحكم على العبد بالموت؛ لكنه إذ كتب على رأسه وهو نائم يظل وصوله إليه مستحيلا. يستخدم لاكان كما رأينا تلك الصورة اللافتة ليبين الطريقة التي نعتمد بها في معرفة هويتنا على شيء ذي دلالة (الآخر الكبير) الذي هو مستعص علينا. ومن هذا المنطلق فإن كولهاس نفسه - وهو شخصية خاضت بحور الدم في طلبه التقدير من الآخر الكبير - قد أصبح يجسد الآن الآخر الكبير المستغلق الغامض بالنسبة للحاكم؛ إذ يحمل معه دالا يمثل سر مصير الحاكم لكنه يبقى مستعصيا عليه إلى الأبد. فكأنما يستغل هذا المدان موته ليجرد الحاكم من قدر من السيادة على موته هو. وفي انعكاس فريد للقوة ينزل المظلوم انتقامه بالظالم باطلاعه على معرفة تنبؤية، معرفة يموت من أجلها الحاكم طواعية. إنها معرفة مستحيلة لا يمكن نيلها عن نظرة الآخر الكبير إليه؛ سر ماهيته الحقيقية الذي لا يمكنه أبدا الوصول إليه. إلا أن كولهاس يمنع هذا الكشف؛ إذ يدمر الدال ويمنع معرفته إلى الأبد. إن هذا - وليس استعادة حصانيه - هو ما يمثل انتصاره الحقيقي. فالفراغ الناتج عن موت تاجر الخيول يتحول لغياب عدوه عن نفسه، مغلقا منفذه للوصول إلى البعد الواقعي من رغبته. إن كولهاس يسير - كما ينبغي لبطل تراجيدي ألماني - منتصرا إلى موته؛ لكن بعد صدمة فعله الأخير يعيش الحاكم في انكسار. فكلتا الشخصيتين، بطرق مختلفة، مثال على الميت الحي. وفي التلميح الساخر للتغذي الذاتي لرجل ميت، يبلع كولهاس في جسده الذي في طريقه للموت الدال الرهيب الذي يمثل مفتاح هوية الآخر؛ ومن ثم يقتل الحاكم لبقية عمره. فكأنما يتحول تاجر الخيول حرفيا إلى تجسيد للبعد الواقعي عند خصمه؛ إذ يبتلع موضوع الرغبة المستحيل الذي هو النبوءة في جسده. فهو يبتلع هوية الحاكم كآكل لحوم البشر فلا يترك قطعة باقية منه؛ وبذلك ينال القوة العليا للعدم التام، وهو ما لا يستطيع حتى النبيل نفسه أن ينتزعها منه. ويذكرنا كلايست في سرده بملاحظة لاكان أن «الاستمرار في التحليل حتى نهايته ليس إلا الوصول إلى الحد الذي تظهر فيه إشكالية الرغبة بالكامل.»
9
إن كانت قطعة الورق تمثل موضوع الرغبة المستحيل الذي يقدره الحاكم أكثر من حياته فثمة وثيقة أخرى مكتوبة - عقد شايلوك القانوني - تؤدي دورا موازيا في مسرحية «تاجر البندقية». ففي تجسيد شهير لفكرة العين بالعين، يتم شايلوك صفقة تجارية مع أنطونيو يقتطع بموجبها الأخير قطعة من لحمه لصالح الأول إن لم يرد المال الذي اقترضه منه. وعندما تغرق سفن أنطونيو، يرفع شايلوك قضية ضده بإصرار لا يرحم:
ليحذر الإخلال بالعقد ... اعتاد في الماضي أن يدعوني المرابي. فليحذر الإخلال بالعقد ... واعتاد أن يقرض المال كمسيحي دون فوائد. فليحذر الإخلال بالعقد! (3، 1: 50-54)
ولاحقا يصبح تكرار كلمة «عقد» أكثر إلحاحا، قارعا جرس الإنذار المشئوم لأنطونيو المهدد:
ستنفذ شروط العقد، فلا أسمعك تسفه عقدي:
وقد أقسمت على إتمام عقدي.
كنت تدعوني كلبا قبل أن يكون لديك سبب يدفعك إلى هذا،
وحيث إنني كلب فاحذر من أنيابي:
Unknown page