Mushilat Maca Ghuraba
مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق
Genres
وهذا يختلف تماما عن عالم التعاطف عند هتشسون أو عالم الود عند ديفيد هيوم، فالرغبة باختصار هي آخر أشكال السمو؛ سمو يتسم بالحذر الزاهد لراهب كرملي، يجب أن يحفظ نفسه من كل الأشياء «المرضية» (وهو ما يعني كل الأشياء التي يتعلق بها الحب والشهوة والعاطفة)، ولا يستند إلا إلى ذاته وافتقاره لغاية نهائية. وهذا أيضا هو السبيل الذي يمكن لفاوست أن يأمل من خلاله الوصول إلى الخلاص. وحيث إن قانون كانط الأخلاقي يتجنب بصورة مشابهة كل الغايات وأشكال الخير الخاصة في شكليته الصارمة؛ إذ يضحي بالنفس وملذاتها في سبيل سيادته ولا يؤسس لنفسه إلا في أمره الفارغ البراق، فإن التشابه بين المفهومين واضح، فكلاهما فارغ من المضمون، وكلاهما يتفادى الدال، وهما من ثم ساميان.
كما أن القانون والرغبة كليهما يتضمنان إلزاما شديدا، فأكثر أفعالنا حرية هي تلك الأفعال التي لا يسعنا سوى أدائها لكي نكون على حقيقتنا، فهي ليست نتيجة «أفعال الإرادة» بل نتيجة للخضوع لقانون وجودنا الذي لا يقبل المساومة، وهو خضوع لذلك الذي بداخلنا الذي يمثل حقيقتنا أكثر من مجرد أي انعكاس. ومع وجود الرغبة - كما هو الحال مع القانون - تصير الذات مجرد حامل لقوة لن تسمح بأي إنكار، فالرغبة سيادتها مستبدة. ومن الواضح أيضا، مثلما أن أمر كانط المطلق مستحيل من جهة - حيث إنه لا يمكن لأي فرد التأكد من أن فعله «غير مرضي» - فإن المطلق الأخلاقي عند لاكان كذلك؛ الأمر بعدم تخلي المرء عن رغبته. والقديس أو الشهيد وحده من يمكنه العيش بتلك الطريقة، فهي ليست أخلاقا للناس العاديين. إن ما فشل كانط في إدراكه في رأي لاكان هو أن الرغبة بتجاهلها للدوافع والأشياء والآثار المادية هي في ذاتها قانون مطلق، صارم ونهائي، مثل شخصية أنجيلو. وعليه ينتفي الاختلاف بين القانون والرغبة؛ فالالتزام بقانون الرغبة الذي هو جوهر فردية الإنسان يعد واجب الإنسان الملزم.
كما أن التصرف تبعا لهذه الرغبة يعني أيضا الجمع بين الحرية والاعتماد على الغير، فإن كانت الذات في النظام الخيالي مفرطة في الاعتماد على غيرها؛ إذ تأسرها صورة خارج نفسها، فإن الذات في النظام الرمزي شديدة الاستقلال. وإن كانت الذات الخيالية تفتقر لحس الفاعلية، فإن نظيرتها الرمزية تحلم بالتحرر التام من الجبر. لكن الذات في النظام الواقعي تظهر بصورتها الحقيقية بوصفها فاعلا من خلال الإنصات إلى ذلك الشيء الذي بداخلها ويتجاوز حدودها، فالتخلي عن تلك القوة الحاسمة يعني التخلي عن نفسها. ومن هذا الجانب، كما من الكثير غيره، فإن التحليل النفسي في حقيقته علم لاهوت خارج عن نطاق الدين، فالذات في النظام الواقعي تسترشد بالذات في المسيحية اليهودية، التي تكمن حريتها في الإقرار باعتمادها على أساس الوجود الذي هو الرب، ويعرف هذا الإقرار أيضا بالإيمان. ففي كلا العقيدتين، يتم رفض الاعتمادية الشديدة والاستقلال الزائف في سبيل صورة أعمق من الجبرية، صورة تمثل مصدر الحرية الشخصية عينه.
ربما يتخذ القانون الأخلاقي موقفا متعجرفا تجاه اللذة؛ إلا أنه ملوث هو ذاته بتلك اللذة الصارخة التي «لا طائل منها» التي تقف وراء كل أشكال اللذة التقليدية في نطاق دافع الموت، والتي يصفها لاكان بالمتعة. فهذا الجانب السفلي الغائم من القانون هو اللذة السادية للأنا العليا، التي لا تبالي بشدة - شأنها شأن القانون الأخلاقي - برفاهية الذات، والتي لا تكتفي بأن تأمرها بالخضوع لأحكام يستحيل الالتزام بها، بل تحمل بداخلها ثقافة ندم قاتلة على العجز عن فعل هذا المستحيل. وكما لو أن هذا لا يكفي، فإن الأنا العليا تفرض أيضا أن تحصل الذات المتعة من الدراما الكئيبة التي تسمح فيها لهذا الندم بأن يسوقها إلى موتها. إلا أنه في إطار أخلاق النظام الواقعي، ليس عدم التخلي عن الرغبة أمرا يفرضه الأنا العليا؛ حيث إن الذات التي تحمل الرغبة النقية - الذات التي صورتها عند لاكان تصويرا بليغا أنتيجون شخصية سوفوكليس - لا تشعر بأي ندم في القيام بواجب الحفاظ على رغبتها؛ فالأخلاق الحقيقية تأخذنا إلى ما وراء الأنا العليا؛ إذ تثبت الذوات المخلصة للنظام الواقعي أنها مستعدة للمخاطرة بالموت في سبيل إعادة ميلاد رمزية. إنه الفارق في مسرحية «الصاع بالصاع» بين أنجيلو وإيزابيلا؛ إلا أن ما يلهم إيزابيلا التطلع للموت هو نفسه - كما سنرى لاحقا - ما يحرك واحدا من أكثر شخصيات شكسبير الغامضة: شايلوك في مسرحية «تاجر البندقية». •••
يبدو الإخلاص لرغبة الإنسان كافيا في الغالب ليشمل نوعا من العناد الخارق للطبيعة أو الهوس الأحادي، كما قد يوحي مثال لاكان على ذلك: شخصية أنتيجون؛ رغم أن لاكان نفسه - إذ يعارض سماع أي كلمة قاسية عن شخصيته المحبوبة - يرفض تماما وجهة النظر المشهورة بمنطقيتها أنها عنيدة بالفعل، وهو بذلك يبالغ في تبسيط التقلبات المعقدة في تدفق العواطف الدرامية. وهو متحيز بنفس الشكل مع أوديب الذي يرى أنه يسير إلى موته بطريقة أخلاقية واقعية، فهو «عنيد حتى النهاية، يرغب في كل شيء، ولا يتخلى عن أي شيء، وغير راض مطلقا.»
6
يبدو هذا أشبه بمغنية أوبرالية أولى باريسية رابطة الجأش، تفصلها ربما مئات السنين عن لاكان نفسه، أكثر من فارماكوس أو كبش الفداء الذي يصير في «أوديب في كولونوس» أساس النظام السياسي الجديد. إن جسد أوديب النجس يمثل من بين أشياء أخرى وحشا مرعبا يدق الأبواب، يجب على المدينة - إن أرادت أن يتاح لها فرصة ميلاد جديد - أن ترى فيه تشوهها الخبيث. إن هذا البعد السياسي العميق لهذه المسرحية التراجيدية لا يحظى سوى بتناول قصير في تأملات لاكان.
لكن ما من شك في أن النظام الواقعي والعناد متلازمان. فلتنظر مثلا إلى رواية هاينريش فون كلايست القصيرة الغريبة عن الإرهاب السياسي «ميكائيل كولهاس». نشر هذا العمل لأول مرة عام 1810، قبل عام من إتمامه اتفاقا بالانتحار مع شابة تعاني من سرطان لا شفاء منه؛ حيث أطلق الرصاص عليها فأرداها قتيلة ثم أطلق النار على رأسه ومات. لقد كان موته دراميا ومبالغا فيه مثل فنه؛ إذ استعد الاثنان للموت بميعاد في حانة وبشرب بعض زجاجات النبيذ والروم وحوالي ستة عشر كوبا من القهوة، بينما كانا يغنيان ويصليان معا. وكما ذكرت إحدى الصحف في صرامة - وإن كان بلا داع: «إن الناس أبعد ما يكون عن الإعجاب أو حتى الموافقة على هذا العمل الجنوني.»
7
كان كلايست قد انضم لجيش نابليون أملا في أن يقتل، لكنه نجح لغمه الشديد في البقاء حيا. وهو أيضا ربما الشخص الوحيد المعروف الذي قادته دراسته لإيمانويل كانط للموت؛ إذ فسر كلايست نظرية كانط المعرفية بأن الحقيقة على الدوام مراوغة، وأن العقل معيب ولا أساس لأفكاره، وأنه لا يمكن التمييز بين المظاهر والواقع، وأن مجمل الواقع ملتبس وغامض على نحو محير. وحيث إن الوجود يفتقر لغاية معروفة فقد بدا الانتحار فعلا مقبولا كغيره وأكثر تحقيقا للرضا من معظم الأفعال.
Unknown page