Mushilat Maca Ghuraba
مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق
Genres
ليس من الغريب إذن أن شخصيتي شكسبير، كلاوديو وإيزابيلا، أخوان؛ حيث إن إيزابيلا مستعدة مثله لتفضيل الحياة على الموت. ولما واجهت الاختيار بين الموت أو الشرف، اختارت الأول دون تردد:
وبذلك تعيش إيزابيلا عفيفة ويموت الأخ:
فأولى من أخينا عفافنا. (2، 4: 184-185)
ليست هذه عاطفة أخوية؛ إن كلاوديو ما لبث أن تعافى سريعا من تقبله اللحظي للإعدام حتى لامها على ذلك بشدة. فإيزابيلا مستعدة للموت في سبيل ذلك الشيء بداخلها - بلغة لاكان - الذي يتجاوزها، هذا «الشيء الذي بداخل الذات» المعروف بالعفة أو الشرف أو الاستقامة أو الصدق، أو ببساطة الفردية، الذي ما من اختيار حقيقي بشأنه في المقام الأول؛ إذ إن الإنسان من دونه ميت في الحقيقة؛ ومن ثم تنتفي مسألة الاختيار بالتبعية. فالشيء الوحيد الذي يجب منطقيا التضحية بالحياة من أجله هو عين الشيء الذي يجعل الحياة تستحق أن تعاش. فهو نفس حال الشهيد وقضيته. فمن ناحية، لا يسعه ألا يموت في سبيلها؛ إذ إنه يواجه نوعا من اختيار هوبسون: فإن لم يمت فسيصبح عدما عبثيا لا عدما له معنى. فالشهيد يختار الموت لأنه في ظروف معينة شديدة هو الوسيلة الوحيدة ليكون شاهدا على قضية تؤدي إلى استمرار حياة الآخرين. فهو يرفض العالم بدافع حب العالم، وهو ما يميزه عن المنتحر، فالمنتحر يهن في قبضة دافع الموت، فيحوله ضد جسده في نوبة من المتعة المفرطة؛ بينما يجد الشهيد وسيلة لاستغلال هذا الدافع من أجل الآخرين، ضاغطا على ثاناتوس لخدمة إيروس أو المحبة.
تكون الحياة عند المنتحر عديمة القيمة ولا تحتمل، ويمكن أن نفرق بين هذه الحالة وبين حالة شخصية سوفوكليس أنتيجون التي رغم إعلانها منذ البداية «أنا ميتة وأرغب الموت»، يتاح لها في اللحظة الأخيرة أن تندم على حياة الزواج والأطفال الكاملة التي تتخلى عنها، وذلك إشارة لاختلافها عن المنتحر. فلا يمكن لموت يرى الحياة بلا قيمة أن يكون ذا قيمة، فالشهيد يتطلع إلى المعنى على حساب الوجود، فيتيح للدال أن يلمع أمام الخلفية السوداء لفنائه هو. فالإقبال على الموت ليس رفضا للحياة بل هو أسلوب حياة قائم بذاته، أسلوب حياة يثريه ويغير شكله أنه منتزع من الموت. أما الذين يتصرفون كما لو كانوا سيعيشون إلى الأبد فهم خطر على المجتمع المتحضر. فبارناردين البليد لا يأبه بالموت، وهو ما لا يجعله يأبه بالحياة كذلك. فعدم اعتبار الموت حدثا فارقا يعني التقليل من أهمية الحياة، فالكائن الأخلاقي وحده - وهذا آخر ما يكون بارناردين - يمكنه استدعاء شيء ذي معنى من فنائه، فالانعدام القاتل للقدرة على الاختيار عنده الذي يمنعه من انتزاع موته يمنعه كذلك من أن يعيش حياة أقل وضاعة من حياة الخنزير.
إن «شجاعة النقص» هذه - كما يسميها سلافوي جيجك
3 - هي باختصار نظام أخلاقي واقعي، وأحد أكبر روادها - للغرابة - في نظر لاكان هو كانط. ففي مقال مهم بعنوان «كانط مع ساد»،
4
يزعم لاكان أن الفيلسوف الألماني هو أول من غرس بذرة التحليل النفسي بتصوره للقانون الأخلاقي، الذي يصور في نظر لاكان الرغبة في أنقى حالاتها، فهو نوع من الرغبة يتجاوز تماما مبدأ المتعة؛ مثل سعي ساد إلى صورة خالدة مستحيلة من المتعة تتجاوز كل المتع المادية، فهذا النوع من الرغبة كما يقول لاكان في موضع آخر «يبلغ أقصاه في التضحية - على وجه الدقة - بكل شيء يتعلق به الحب في ظل ضعف الإنسان، ولا أقول في رفض الشيء المرضي فحسب بل في التضحية به وقتله.»
5
Unknown page