Mushilat Maca Ghuraba
مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق
Genres
ورغم شفقة رامساي الذاتية الصبيانية، فإنه في النهاية يثبت قدرته على تجاوز دائرة الشفقة والتعاطف الخيالية إلى «منطقة أخرى ... منطقة خارج متناول الإنسان»؛ حيث ينزل أخيرا بالمنارة كبطل استعاد رجولته المدمرة بمعجزة. وتسأل ليلي نفسها: «ما الذي بحث عنه بهذا الإصرار وهذا التصميم وهذا الصمت؟» في تلك الأثناء، وبينما يسافر رامساي إلى حدود رغبته في الوقوف أمام المنارة المنعزلة، تشعر ليلي بأنها «غير راغبة في الثرثرة، غير راغبة في الحياة، غير راغبة في الاجتماع بالناس في وجود عدوها القديم المرعب، هذا الشيء الآخر، هذه الحقيقة، هذا الواقع الذي سيطر عليها فجأة بعد أن ظهر جليا من خلف المظاهر واستحوذ على انتباهها. لقد كانت منقسمة بين عدم الرغبة والامتناع، فلماذا دائما يطول الأمر ويبتعد؟»
لكن هذا الاستدعاء الهام للنظام الواقعي هو كذلك إحساس بعدم التناسب الجذري للأشياء - أي اضطرابها أو ظهورها فجأة بصورة غريبة كل دقيقة - كتجهم مفاجئ أو شبح على وجه جميل: «لقد نسي المرء نوبات الانفعال اللطيفة - الفورة والشحوب والتشوش الغريب، الضوء أو الظل - التي تجعل الوجه غير واضح لوهلة، ومع ذلك تضيف سمة له يراها الإنسان بعد ذلك إلى الأبد.» ثمة رهبة وكذلك نشوة في الشعور بالمخاطرة والانكشاف الشديدين بما يتخطى العادات الوقائية للنظام الرمزي: «ألم يكن هناك أمان؟ ولا معرفة كبيرة بقوانين العالم؟ ولا مرشد ولا ملجأ، بل كان كل شيء معجزة، وقفز من أعلى برج في الهواء؟ هل يمكن - حتى عند من هم أكبر سنا - أن تكون تلك هي الحياة؟ هل يمكن أن تكون مدهشة وغير متوقعة ومجهولة؟» سنرى لاحقا كيف كان هذا الفرق بين العادة والمعجزة موضوع أعمال بعض فلاسفة الأخلاق المعاصرين المتناولين للنظام الواقعي.
ومع تحول «الأشياء الخارجية» إلى عالم اللاواقعية، يسكن لوحة ليلي غير المنتهية حس وجود هو في نفس الوقت «خفيف بحيث لا تضطرب له أنفاسك، وثقيل بحيث لا يمكنك إزاحته بمجموعة من الخيول.» وتستمر - وهي لا تزال تتأمل حال الموتى - في «مواجهة صعوبة في رسمها» إلى أن يخطر ببالها أن ترسم خطا يمثل شجرة في وسط اللوحة، وحينها تشعر بابتهاج عظيم؛ فلقد تخطت الآن - مثل السيد رامساي - حاجزا غير مرئي، وقفزت فيما وراء قانون الجسد المحب والقمعي في نفس الوقت الذي مثلته السيدة رامساي لها، مدركة في نوبة من الحرية عدم الحاجة للخضوع لهذا القانون من خلال زواجها. لقد تحول السيد رامساي نفسه إلى الأعزب الذي كان من قبل، سائرا بخطى خفيفة كشاب إلى داخل المنارة، «كما لو كان يقفز في الفضاء» بحثا «عن العالم كله ... كما لو كان يقول: «ما من إله.»» إن كان قد صار ملحدا في لحظة الكشف اللامعة الغامضة تلك؛ فذلك لأن النظام الواقعي لرغبته اتضح أن أصله في ذاته لا يستمد أي دعم مما سواه. وفي الوقت نفسه ترسم ليلي - إذ تدفعها مغامرة لوحتها المحفوفة بالمخاطر إلى أقصى حدود قدراتها - خطا فجأة في وسط اللوحة، بينما تنتهي الرواية باقتباس من كلام المسيح على الصليب: «لقد اكتمل الأمر، لقد انتهى.» وفي ضوء هذا التصوير الفني للنظام الواقعي، ليس من الغريب أن ترى في قلب رائعة وولف الأخرى «السيدة دالوواي» الموت والذهان وتفكك المعنى. •••
إن النظام الواقعي من ناحية هو أثر الاحتمالية المادية غير المفهومة التي لا يسع النظام الرمزي أن يستوعبها بالكامل أبدا، والقوة التي تعطل دافع ليلي بريسكو الفني نحو النظام. أما من ناحية أخرى فهو نظام مقترن بشدة بالدوافع الجسدية التي هي في حالتها النقية أو الفعلية غامضة بالنسبة إلينا بقدر مفهوم كانط «الشيء في ذاته»، والتي يجب أن تمر عبر شوائب الدال من أجل أن تدخل إلى الوعي الإنساني. وكما لو لم يكن ما سبق كافيا، يمكن تعريف النظام الواقعي بأنه - كما في رواية «إلى المنارة» - الشيء الذي هو دائما في غير محله، ومع وجود هذا الشيء المرغوب الممنوع والمستحيل الذي هو جسد الأم، عرف السعي المحموم إليه في مجال التحليل النفسي بأنه مسار التاريخ الإنساني. فإن تمت استعادة هذا الفردوس المفقود، فإن التاريخ - الذي ما هو إلا الفشل المتكرر في الوصول إليه - سيتوقف. وفيما يتعلق بجسد الأم، يمثل النظام الواقعي محل «متعة» مفقودة، تلك اللذة المنتشية للآخر الكبير التي تبدو ملذات النظام الرمزي بجانبها ضئيلة للغاية.
إلا أن هذه «المتعة» أو تلك النشوة الشديدة تحمل أيضا بصمة الأنا العليا المهددة، بصمة القانون الذي يأمرنا بالرضا في سعادة بخضوعنا، مع انتزاع حياة محمومة من الشيء المريع المتمثل في الوصول بأنفسنا إلى الموت.
5
إنها صورة مروعة وضارية من المتعة نحصد فيها الإشباع من الطريقة التي يطلق فيها القانون أو الأنا العليا وحش ساديته المختلة علينا. إنه قانون فارغ من المعنى، كعبارة النادل الأمريكي السطحية اللازمة: «بالهناء والشفاء!» إننا في وجود النظام الواقعي دائما ما نكون في ظل الموت، أو بعبارة أدق، ما علمنا فرويد أنه دافع الموت الذي نشتهي نتيجة حكمه السادي هلاكنا. إن هذا المأزق بين القانون والرغبة قبل كل شيء - تلك الجدلية المتوقفة التي يعزز بها كل منا قدرة الآخر على التعامل مع الموت - هي ما يمكن من خلاله الإحساس بوجود النظام الواقعي.
إلا أن ثمة وجها مخلصا للنظام الواقعي، مثلما له وجه مدمر. إن الشيء الأكثر واقعية فينا من وجهة نظر المحلل النفسي هو الرغبة، والإخلاص لرغبتنا يعني من ثم الإخلاص لأنفسنا. لكن هذا حتما إخلاص للفشل؛ حيث إن الرغبة لا توقفها الطبيعة، والذين يمتلكون الشجاعة الكافية لتقبل هذه الحقيقة هم الأبطال الحقيقيون، مثلما ينتزع البطل التراجيدي الكلاسيكي النصر من مخالب الهزيمة، فعين الشجاعة التي تسمح له بالاستسلام لقدره هي كذلك قوة تتخطاه. إن الشخصيات الأدبية التي سنتناولها في الفصل المقبل - الذين يفضلون السير بشمم نحو الموت، على التخلي عن رغبتهم المطلقة في الشرف أو العدل أو العفة أو التقدير - هم الذين أصبح هدف إنساني ما عندهم كناية عن الرغبة في ذاتها، كناية عن ذلك الذي بداخلهم، الذي يتخطى كل الأهداف المنطوقة. إنهم لهذا السبب يتمسكون بالأشياء التي يتوقون إليها بهذه القوة الشديدة.
الأخلاق عند لاكان إذا تتخطى ما هو جيد ونافع وفاضل وممتع، وتكمن في نطاق الرغبة المقنن بشدة، فالمؤثرون الذي يسعون جاهدين لخدمة الآخرين وإشباع احتياجاتهم وتعزيز رفاهتهم، لا يفعلون ذلك إلا لأن الصورة الحقيقية للذة التي هي المتعة - وهي اللذة التي «لا طائل منها» - قد خذلتهم بكل أسف. أما المصلح النفعي أو السياسي فهو الشخص غير القادر على الاستمتاع من دون غاية منظورة، فهؤلاء الذين يصادرون على الخير - كما يزعم فلاسفة الأخلاق الواقعية - يفترضون بأسلوب ضمني استبدادي أنهم على علم بما فيه خير الآخرين، بينما لا يقع المحلل المحب لمريضه فريسة لهذه الافتراضات المسبقة.
من ثم فإن سياسة الخير تتضمن نزعة أبوية بيروقراطية، نزعة تعرف الخير بأسلوب حزبي، وتدافع عنه ضد منافسين أقوياء معينين في سوق الأخلاق، وتحدد توزيعه وتنظيم أموره. ويمكن الرد على هذا بأن المحب الصادق ليس الذي يعطي تعليمات لآخر عن طبيعة الخير بل الذي يكون هو نفسه سببا فيه. إن هذه التبادلية هي التي ينكرها فيلسوف واقعي مثل جون راجمان؛ إذ يكتب أن التحليل النفسي «يطرح مسألة وجود رابطة شهوانية غير قائمة على التشارك أو التبادل أو المساواة بل تقوم على «الأشياء» المفردة التي يكنها كل منا للنظام الواقعي.»
Unknown page