Mushilat Maca Ghuraba
مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق
Genres
وكما الحال عند بيرك، فإننا لن نلتزم به حقا إلا بعد صبغه بصبغة جمالية، فهذا إن جاز التعبير تحول من السلطة المطلقة إلى نوع من الهيمنة. كذلك فإننا لا ننقض سيادة القانون - كما يفعل جيل دولوز - بغمس هذا النظام المقيد بكامله في فورة من الليبرتارية المتمردة، متطلعين في المقابل إلى آلية «الرغبة» الثورية في جوهرها، فنحن لا نتحرر من القانون الأخلاقي إلا عندما ندرك أن ما يفرضه هو خير في ذاته وليس خيرا لأنه مفروض. إذا يظل كانط سجينا للقانون الأخلاقي؛ حيث إنه يرى كما شاهدنا أن القانون لا يفرض إلا نفسه. صحيح أن كانط من أحد الأوجه محطم للأوثان التقليدية وليس مقدسا لها عندما يتعلق الأمر بالقانون؛ إذ يصر على استحالة تصويره السامي؛ إلا أنه، إذ يؤمن بأن فعله لا يتسم بالسلامة الأخلاقية إلا بتجسيده صورة معينة تطابق القانون، عرضة - إن جاز التعبير - لأن يفتتن بمدرب اللعبة لا باللعبة ذاتها. كما أنه في خطر الوقوع في الشطط كما في البروتستانتية الراديكالية، فالتيار الرئيسي للمسيحية يعلمنا أن الأشياء لا تكون خيرا لأن الرب يأمر بها، وهو ما يجعل الرب يبدو مستبدا متقلبا؛ مما يجعله في مرمى نيران سبينوزا. لكن الرب يريد ما هو خير في ذاته، والإقرار بذلك علامة على النضخ الأخلاقي، فهي خطوة سهلة للانتقال من الادعاء بأن الخير هو أيا ما يفرضه قانون متغير ما إلى الاعتقاد مثل كانط بأن الخير يوجد في شكل القانون ذاته.
إننا نتحرر من القانون عندما ندرك قبل كل شيء أنه قانون العدل والرحمة وليس فرمانا يستبد بالمنع والتحريم. إن هذا هو الدرس المستفاد من صلب المسيح؛ حيث يقلب موت المسيح الصورة الشيطانية أو الفريسية ليهوه باعتباره «نوبودادي» (بحسب عبارة بليك) أو أنا عليا أو طاغية متعطش للدماء لكشف حقيقة القانون باعتباره دعوة للحب والعدل، وهي دعوة من المرجح أن تودي بحياة من يؤمنون بها على يد الدولة السياسية. إن اتفاق المسيح مع قانون الرب المحرر هذا - مع أنه، كما يقولون، «ابن» الرب - هو ما أدى إلى تعذيبه وقتله؛ فالقانون في حد ذاته هو المتجاوز.
مع ذلك فإن القانون الأخلاقي الكانطي راديكالي تحديدا فيما يتعلق بمجهولية الهوية فيه، فإن كان له بعض جوانب منطق السلعة، فقد فعل ذلك بروح مستنيرة ومستبدة في الوقت عينه. وحتى السلعة عند ماركس - الذي يرى أن التاريخ يسير بوجهه السيئ - لها جانب إيجابي، فهي بوصفها لغة عامة تساعد على تجاوز أشكال الخصوصية «السيئة»، وتطيح بالحدود التي نصبها النظام القديم، وتجذب الرجال والنساء إلى تواصل قابل لأن يكون عاما بعضهم مع بعض، ومن ثم فهي تضع أسس الاشتراكية الدولية. يكتب تيودور أدورنو: «هذه الشكلية (الخاصة بالقانون الكانطي) تمنع في رحمة إساءة استخدام الاختلافات الكيفية للأشياء في سبيل التميز والأيديولوجيا، فهي تضع شروط العرف القانوني العام؛ ومن ثم - ورغم تجردها ونتيجة له - يبقى بداخلها شيء ذو أهمية هو قيمة المساواة.»
25
لهذا فإن كانط - وهو أعظم مناصر للتنوير الليبرالي - يسير بوجهه السيئ، إن جاز التعبير؛ إذ صار حقك في الحرية والاحترام والحقوق المتساوية مع أقرانك لا يرجع إلى أن والدك نبيل أو سيد إقطاعي، بل لأنك تنتمي للجنس البشري. إن الجرأة التي تميز هذا القول مذهلة. وكذلك القوة الثورية للتجريد والعمومية، خلافا لما يراه ما بعد الحداثيون. كما أنه بمجرد أن تترسخ هذه العقيدة فسيتمكن المجتمع البرجوازي من قياس ما هو قاصر عنه حتما من مثلها المثيرة للإعجاب. قد تكون الأخلاق الرمزية متنافرة غير متآلفة؛ لكنها تنبئ بقدوم عصر الذات المقررة لنفسها. وبذلك فهي تفتح بابا يتجاوز الجوانب الأقل جاذبية لما يسميه هيجل بالنظام الأخلاقي؛ الامتثالية الثقافية، والعادات غير الانعكاسية والإلزامية العمياء للتقاليد. لكن بما أنها تحثك في الوقت ذاته على ما يتجاوز الجوانب الأكثر الإيجابية للنظام الأخلاقي هذا - القرابة والمشاركة والفضيلة الاعتيادية والعواطف الخاصة - تصير هذه النقطة نقطة قوتها ونقطة ضعفها في آن واحد.
ليس كانط الليبرالي الذي يقنع بترك الآخرين لشئونهم طالما لم يتدخلوا في شئونه. على العكس، فهو يقترب بقدر ما يستطيع الليبرالي من مفهوم الخير العام والعلاقة التبادلية بين الذوات؛ إذ ليس من الكافي التعايش مع الآخرين في ظل اتفاق متحضر على عدم التدخل، بل إن السعي تجاه المجتمع العادل يعني دعم الغايات الأخلاقية للآخرين على نحو نشط مثل أهداف الشخص نفسه. يتحدث آلان وود عن رؤية كانط الأخلاقية باعتبارها رؤية للغايات «التي تدعم بعضها بعضا.»
26
لكن كما يوجد فارق بين القانون الأخلاقي الكانطي ومفهوم الحب في المسيحية فهناك فارق ذو صلة بين ليبرالية كانط والفكر السياسي لهيجل وماركس. ويدعم مناصرو مذهب الخير البريطانيين - كما رأينا - العلاقة التبادلية بين الناس، لكن الطريق مزدوج الاتجاه بين الناس يظل أسير شباك النظام الخيالي؛ إذ يتقيد بصورة كبيرة بالعلاقات المباشرة مع الناس. وبصفة عامة فإن هذه الرؤية ترتكب الخطأ المألوف بإحلال النبيل الإنجليزي محل البشر على مستوى العالم.
من ثم فإن الأخلاقيين من هذا النوع، كما أشرنا من قبل، لديهم مشكلة نوعا ما مع الغرباء والنماذج المختلفة الذين تقل إمكانية إظهار الخيال لعواطفهم. أما كانط فيرحب في المقابل بالغريب عن طريق القانون الأخلاقي؛ لكنه إذ يفعل هذا يقلل من منزلة الصداقة والتعاطف الحساس. فبما أن الناس عليهم أن يكافحوا من أجل دعم غايات بعضهم بعضا فهم، من وجهة نظر كانط، بعيدون عن أن يكونوا كالبدو الفرادى؛ إلا أنه طالما وضعت هذه الغايات على يد كل فرد لنفسه بدلا من أن تبنى بصفة مشتركة من خلال الممارسة المشتركة، فيظل كانط في نطاق المذهب الليبرالي؛ إذ إن الحب يعني أن يجد الإنسان غايته في الآخر وليس مجرد أن يناصر الغاية التي وضعها لنفسه. وكما هو متوقع، فكانط عاجز أيضا عن فهم أن مناصرة الفرد لغاية الغير على نطاق واسع ليست ممكنة إلا في ظل نظام اجتماعي غير منقسم بنيويا.
إن ما تحتاجه النظريتان الخيالية والرمزية هنا هو مفهوم المنظومة، فالمنظومات التي يبدو أنها ذات قيمة عند هيوم وهتشسون وزملائهما هي العائلة والنادي. من المؤكد أن القانون والملكية قضيتان شغلتا هيوم بقوة؛ إلا أنه يتعامل معهما في أغلب الأحيان على نحو تصوري؛ أي باعتبارهما مفهومين لا باعتبارهما واقعا اجتماعيا. أما عند كانط وتابعيه فالقانون الأخلاقي بالتأكيد منظومة بالمعنى الواسع؛ إلا أن المعطى الأخلاقي الأساسي عندهم هو الفرد، الذي يعامل في معظم الوقت باعتباره معزولا عن أي سياق اجتماعي، فهل يمكن إذن أن توجد صورة من التبادل الإنساني تختلف عن العلاقة المباشرة وجها لوجه، التي هي باختصار رمزية وليست خيالية؟ يجيب هيجل وماركس عن هذا التساؤل بالإيجاب، تماما مثلما فعل روسو من قبل، فالدولة في نظره يجب أن تبنى بحيث تترجم اهتمامنا الفطري تجاه احتياجات الآخرين إلى مراعاة واعية للخير العام.
Unknown page