51

Mushilat Maca Ghuraba

مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق

Genres

28

ويشير بنجامين إلى أنه في شعر بودلير «التوقع الذي ينشأ عن نظرة العين لا يتم إشباعه»، وهو ما يعني أن النظرة - التي تنتظم من جديد حول نقص جوهري - تقطع كل المسافة عبر الشيء المنظور في هذا السعي المضني نحو وفرة مفقودة وهي الرغبة. إن رغبتنا في لغة لاكان ليست في الآخر وإنما في الآخر الكبير، وكما يشير بنجامين على طريقة لاكان: «اللوحة التي ننظر إليها تعكس لنا ما لا تشبع منه أعيننا أبدا.»

29

إن تبادل النظرات الذي شغف به آدم سميث له طابع خيالي، إلا أنه يعد أيضا نوعا معينا من عدم التماثل؛ وحيث إن الآخرين - كما رأينا - أقرب لأن يكونوا أقل حزنا أو فرحا بمشاعرنا منا، فنظرتهم المنعكسة يمكنها أن تلطف من مشاعرنا نحن، فتسرب إليهم نوعا من السكينة. فنحن نرى أنفسنا - كما في النظام الخيالي - من الداخل ومن الخارج في آن واحد، وإن لم تكن الرؤيتان متطابقتين تماما. ونحكم على أنفسنا من خلال أعين الآخرين أو الأنا المثالية؛ لذا يظهر على سلوكنا دائما خليط ما من الغيرية. ويمثل ذلك أصل الأخلاق ذاته؛ فالإنسان الوحيد تماما - كما يلمح سميث - لن يملك أي مشاعر أخلاقية بالمرة؛ حيث إنه لن يتمكن من رؤية صفاته من الخارج أكثر من إمكانه رؤية وجهه. (وهو يتحدث على الأرجح عن إنسان «همجي» وليس عن ناسك لديه مرآة جيب.) ثم يضيف: «ضعه في مجتمع وستتوفر له فورا المرآة التي أرادها من قبل» (298). إن هذا في المقابل، عين ما يراه جان جاك روسو مرعبا. إن «الهمجيين» في نظر روسو يتمتعون باكتفاء ذاتي يثير الإعجاب، بينما المتحضرون يعتمدون على الآخرين اعتمادا يثير الاشمئزاز. إن كون رغبتنا هي رغبة الآخر الكبير - أي أننا لا نعيش إلا تحت ناظري أقراننا - هو ما يراه روسو عين الضعف، فالحياة الاجتماعية عنده علامة على ضعفنا، والأخلاق هي النتيجة المضنية لعدم وجودنا بمفردنا، ومثل الجحيم عند سارتر؛ فالأخلاق هي الآخرون.

يكتب سميث: «إن كل ملكة لدى الفرد هي المقياس الذي يحكم به على الملكة المشابهة في غيره ...» حيث إننا نقيس «ملاءمة مشاعر الآخرين أو عدم ملاءمتها باتفاقها أو اختلافها مع مشاعرنا» (271)؛ لذا يبدو أن الحكم الأخلاقي ذا طابع دائري مقلق؛ حيث إنني أحكم عليك مقارنة بنفسي وأنت تحكم على نفسك بحكمك علي. وسيبدو كل شخص - إذا اتبعنا الأسلوب السفسطائي - مقياسا لكل الأشياء. ولإيقاف هذا الخلل النسبوي، يقول سميث إن «ملاحظاتنا المستمرة لسلوك الآخرين يقودنا دون وعي إلى أن نضع لأنفسنا قواعد عامة معينة فيما يخص ما هو يصح ويليق فعله أو تجنبه» (303). إذن، فالقواعد العامة لها موضع محدد، طالما أنها استنباطات من سلوكنا المعتاد، وليست - على نحو عقلاني - مبادئ بديهية يمكن منها استنتاج السلوك الخاطئ أو الفاضل. هذه القواعد ما هي في الحقيقة إلا تنقيح ل «مشاعر الإنسانية المتكررة» (305)، إلا أنها تمارس علينا قوة كبيرة مع ذلك، فهي تعمل عمل الآخر الكبير المحايد، أي حكم مثالي على سلوكنا الذي نعيه دوما.

إذن، فأفعالنا عند سميث - كما عند لاكان - هي دائما على مستوى ما رسالة موجهة إلى الآخر الكبير. والفكرة أن هذا الحوار في رأي لاكان لا يمكن اختزاله أبدا في التبادلات الخيالية عند سميث الذي يرى أن كلا منا يحيا تحت بصر العين الكريمة للآخر الجمعي؛ إذ كيف لنا أن نعرف أننا معروفون؟ هذه ليست مشكلة في أي نظرية أخلاق خيالية، التي يكون التعرف فيها فوريا وبديهيا كمذاق المشمش. لكن في النظام الرمزي، فإن الوسيط الأساسي لعلاقاتنا مع الآخرين هي اللغة. وتثير اللغة عند لاكان احتمال سوء الفهم في هذه التبادلات، فالوسيط الذي يجمعنا يفرقنا كذلك، فالدوال التي ندرك من خلالها احتياج كل منا لأن نعرف، يستحيل خلوها من اللبس كما قد نأمل. وكذلك - في هذا الصدد - الإشارات المادية في النظام الخيالي السابق على اللغة، كالمناجاة الصامتة لوالتر وتوبي، الشخصيتين اللتين ابتكرهما ستيرن، التي تهدف لتحقيق تبادل أقل شرا من تلك المبنية على الكلمة؛ إذ إن الإشارات هي الأخرى تحتاج إلى تفسير، ومن ثم لا تتفادى علامة الدال، فلا يمكن تفادي التباس الدال مثلا بقبض اليد أو هز عصا.

يحلم مناصرو النظام الخيالي بدال واضح مفرد، علامة سحرية تختزن جوهر الفرد وتنقله بتمامه وكماله إلى فرد آخر في لمح البصر. أحيانا ما اتخذت هذه العلامة ذات المميزات الشاملة اسم الرمز الرومانسي، وإن كان اللاكانيون يفضلون تسميتها بالفالس (القضيب)؛ ولكن لأن النظام الرمزي هو نظام للمعنى، ولأن المعنى يميل لئلا يتفق مع علامته، فإن احتمال الخطأ المشترك في التعرف جزء من النظام في الأساس. إن انعدام وجود الفالس هو السبب في إمكانية وجود التراجيديا، بل في وجود التاريخ أيضا. كذلك فإن هويتي إن ارتبطت بهويتك، وارتبطت هويتك بهوية شخص آخر، وهكذا في شبكة لا متناهية من الارتباطات، فكيف لي أن أعرف ما إذا كانت نظرتك المستحسنة هي نظرتك أنت وليست أثرا مطموسا لأنفس أخرى؟ إذن، تجد أخلاق النظام الخيالي العاكسة نفسها مضطربة على يد الآخر الكبير المعتم؛ فالتبادلية الخيالية تفسح المجال للاتبادلية الرمزية. ومثلما لا يوجد وجه خارجي للنظام الخيالي الذي يلتف على نفسه بنحو يشبه الفضاء الكوني، فليس هناك جانب خارجي للنظام الرمزي هو الآخر. وبالاصطلاح اللاكاني لا يوجد آخر كبير للآخر الكبير؛ أي لا لغة واصفة تمكننا من النظر في المعاني البين-ذاتية من موقع أفضل فيما وراءها؛ حيث إن هذه اللغة تحتاج بدورها إلى أن تفسرها لغة أخرى. والقول إننا أثر للدال يعني أنه لا أساس خارجي لخطابنا المشترك، مثلما يرى آدم سميث أنه لا أساس لعالمنا فيما وراء «المشاعر البشرية المشتركة»؛ فالنظام الرمزي ينقصه الأساس بالضرورة.

يعرف «قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية» التقمص العاطفي بأنه قوة «اتحاد الإنسان عقليا مع الشخص أو الشيء محل التأمل (وفهمه الكامل بالتبعية)». لكن الاتحاد والفهم ليسا متلازمين بالضرورة كما قد توحي تلك الكلمات؛ إذ لا يمكنني أن أفهم نابليون بأن «أصير» نابليون. ولا يقتصر السبب، كما شرحنا، على أنه لن يبقى شخص ليقوم بالفهم، بل إن هذا يبدو افتراضا بأن نابليون قد فهم نفسه، وهو ما يفترض فيه شفافية ذاتية مستحيلة. قد يكون الفهم فعلا هو الدخول إلى عقل شخص آخر؛ لكنه وسيلة للفتح والدخول لهذا العقل اسمها اللغة، فالفهم ليس قضية الامتزاج على نحو سحري بجسد الآخر، فحتى إن حققت هذا الإنجاز فكيف كنت سأعرف ما وجدت هناك؟ فقط لأني أمتلك اللغة في المقام الأول، وهو ما كان سيوفر علي عناء هذا الاقتحام الخيالي، فالتعاطف والتفهم لا يتطلبان تصورات ذهنية للحالات العاطفية عند الآخرين، فهذه الحالات من ناحية ليست خفية من حيث المبدأ. ومن ناحية أخرى يمكنك أن تتعاطف مع إضاعتي لمخطوطة من العصور الوسطى لا تقدر بثمن دون أن تتبادر إلى الذهن أي صورة محددة للوثيقة، ودون بذل الجهد لاستنساخ ما يجري في خلجاتي العاطفية.

من الممكن بالطبع أن أتعاطف مع تجارب لم تخضها فحسب، بل مع تجارب لا يمكن أن تخوضها. ومثال سميث هو تعاطف الرجل مع المرأة أثناء الولادة، بل إنه من الممكن أن تشعر بسعادة شخص أو بكربه بدرجة أشد مما يشعر هو، وهو ما يمثل خللا من نوع ما في حلم التبادلية الكاملة. كما أن التعاطف مع ألم شخص لا يعني بالضرورة الشعور به؛ إذ هناك فرق بين أن آسف عليك وأن أشعر بحزنك. كما يمكن لحزنك أن يغمرني دون أن أشعر بأي استجابة أخلاقية معينة تجاهه، تماما مثلما يمكنني أن أشعر بالغضب دونما أن أفكر فيما إذا كان الغضب مبررا أم لا.

عادة ما يكون الذين يهرعون لمساعدة ضحايا حادث سير مثلا مشغولي البال بصورة لا تدع مجالا لأن تكون لديهم صور ذهنية لأحاسيس الضحايا المفترضة. وعلى العكس، يمكننا أن نتخيل صورا متحركة لأحاسيس الآخرين دون أدنى ميل للقدوم لمساعدتهم. ويكتب الفينومينولوجي ماكس شيلر: «من المفهوم تماما أن أقول: «يمكنني أن أتصور مشاعرك لكني لا أشفق عليك».»

Unknown page