47

Mushilat Maca Ghuraba

مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق

Genres

15

فالجمال هو الاسم الذي أطلقه بيرك على الصلات الخيالية التي تؤدي إلى التماسك الاجتماعي.

أين إذن تنتهي غابة المرايا هذه؟ يبدو الوجود الاجتماعي عند بيرك سلسلة لا نهائية من صور الصور، سلسلة بلا أساس أو بداية. وتتسم هذه العملية المرآتية بانطواء محير على الذات قد يكتب الموت للتاريخ والتنوع والصراع والمنافسة إن لم يتم منعه. ويكتب بيرك: «رغم أن المحاكاة إحدى أعظم الأدوات التي تستخدمها العناية الإلهية في الاقتراب بطبيعتنا نحو كمالها، فإن الناس إن تركوا أنفسهم تماما للتقليد واتبع كل منهم الآخر، وهكذا في دائرة لا تنتهي، فمن الواضح أنه قد لا يكون هناك أي تطور بينهم أبدا.»

16

إن نفس الظروف التي تضمن التناغم الاجتماعي تهدد كذلك بوقف المشروع الإنساني. أو لنصغ القضية بأسلوب ماركسي كلاسيكي: فإن أساس الدينامية الاقتصادية والبنية الفوقية للأعراف الاجتماعية كل منهما منحرف عن الآخر بنحو خطر. ومع الانغماس في هذا الانغلاق النرجسي تصبح العواطف في تخمة وفحش، ويصير أصحاب الأعمال في وهن وضعف. والمطلوب لكسر هذا الجمود هو لمسة من خطر وتنافس وجهد مضن ونفحة من الموت واللامحدودية، وهي ما تتصل جميعا - كما سنرى لاحقا - بما يسميه اللاكانيون النظام الواقعي. إن هذا المثير وحده هو ما اكتشفه بيرك وسط أهوال السمو المزينة. وقد يجد الماركسي السوقي - المهووس على نحو موحش بالطبقة الاجتماعية - في هذا جهدا للتوفيق بين ثقافة نبيلة تقوم على الشرف والتحضر وبين طاقات الفوضى والسلب عند طبقة وسطى متشكلة حديثا.

لقد رأينا أن النظام الخيالي مرتبط بالمحاكاة والتنافس معا؛ لكن هذين المفهومين في الجماليات السياسية عند بيرك هما الجمال والسمو على الترتيب، فالسمو بقيمه الرجولية الخاصة بالمبادرة والطموح والمنافسة والتحدي يقتحم سياجا بقوة نطاق النظام الخيالي الاجتماعي لكنه لا يقتحمه إلا ليعيد بناءه، فهو نوع من «التورم» القضيبي، حسب تعبير بيرك؛ أي نفي لنظام مستقر من دونه يضعف مثل هذا النظام وينتهي. وهو إذ ينقلنا من المحاكاة المبالغ فيها للجمال إلى دائرة الطاقة والطموح الأوسع يوجهنا إلى النظام الرمزي، إلا أن - كما ذكرنا - ثمة لمسة من النظام الواقعي في هوة السمو المميتة التي ترفض - كما النظام الواقعي - كل محاولات الإيقاع بها في شباك اللغة. ومثل النظام الواقعي، يكمن السمو فيما وراء التصوير، فهو نقطة الصدع الداخلي في بنية الجمال، والشرط اللااجتماعي للنشاط الاجتماعي كله.

إذن؛ فالسمو هو القوة الرجولية المتمردة التي تحثنا على الخروج من الانعكاسات المتبادلة المرضية في المجتمع المدني، وتقذفنا من خلال ذلك إلى منطقة خطر قاتل حيث نراقص الموت أملا في أن نبعث من جديد. ليس من الصعب أن نرى في هذا التحول من الجمال إلى السمو عبورا من النظام الخيالي إلى النظام الرمزي، تماما مثلما يمكن اعتباره انتقالا من الأنوثة إلى الرجولة. لكن من الممكن كذلك رصد تحول من عاطفة تراجيدية تقليدية، وهي الشفقة، إلى عاطفة أخرى وهي الخوف. فالشفقة هي ما يربطنا بالآخرين، بينما الخوف منشؤه خطر انحلال الرباط الاجتماعي.

17

وإن كانت الشفقة خيالية، فالخوف واقعي. إلا أنها عاطفة تميز النظام الرمزي بنفس القدر، كما تهدد الذوات المستقلة المتصادمة بتدمير كل منها للآخر، كما يوجد خوف خاص بالنظام الخيالي يتعلق بالجوانب الأكثر اتصافا بالارتياب والتنافسية في تلك الحالة ، فالخوف من التراجيديا ينشأ من بين أشياء أخرى عن تخيل أننا قد نبتلى مثل البطل التراجيدي، وبهذا فهو يحمل لمسة من المصلحة الشخصية كما عند هوبز. فالفاصل بين العاطفتين - كما يقر أرسطو في «الخطابة» - دقيق على نحو ملحوظ، ويمكن القول إنه دقيق بقدر الفاصل بين التعاطف والتنافس في النظام الخيالي. وتتحول الشفقة - بحسب تعليق أرسطو - إلى خوف عندما يكون المشفق عليه قريبا جدا منا لدرجة أن معاناته تبدو معاناتنا، فهي حالة أخرى من الالتباس بين النفس والآخر الذي رأيناه يميز النظام الخيالي. •••

يصوغ آدم سميث - شأنه شأن بيرك - بعض أجزاء نظريته الأخلاقية على أساس النوع، فكما يرى بيرك أن النساء يتصفن بالجمال والرجال بالسمو، يرى سميث أن النساء يتسمن بالإنسانية بينما يتسم الرجال بكرم الأخلاق. والإنسانية في نظره مسألة ترتبط بالحنان والتعاطف الرقيق، وهو ما يسمح لنا (صارت الفكرة أكثر من مألوفة الآن) بالدخول إلى نطاق مشاعر الآخرين كما لو كانت مشاعرنا. تتصف النساء بفضيلة التعاطف هذه؛ لكنهن لا يعرفن بالكرم. يقول في كتابه «نظرية العواطف الأخلاقية»: «إن ندرة تبرعات النساء الكبيرة ملحوظة من ملحوظات القانون المدني.»

Unknown page