123

Mushilat Maca Ghuraba

مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق

Genres

20

إن ما يقدره قبل كل شيء هو كل ما هو مراوغ ومتسام ولا متعين، وكلها أمور أكثر بريقا من الأشياء المحددة الرتيبة الموجودة في العالم التقليدي. فالشيء المحدد - كطب الأسنان - في نظر دريدا لا مفر منه، لكنه غير جذاب. وبصورة عامة، فإن ما لا لبس فيه في رأيه لا إلهام منه. إنها عقيدة غريبة في جمودها؛ إذ لا يبدو أن دريدا يقدر أن ثمة عبارات مباشرة جذابة وأخرى متعددة المعنى رتيبة؛ فالتعدديون الحقيقيون يعرفون أننا بحاجة أحيانا إلى أن نتحدث بكل الدقة والتحديد الممكنين، وأحيانا العكس؛ فالتعريفات قد تكون كاشفة وقد تكون (كما يشير فتجنشتاين) مجرد نقل منمق. ورغم كل القوة الهائلة والأصالة اللتين يتميز بهما عمل دريدا (فهو بالتأكيد أحد أشهر فلاسفة القرن العشرين)، فهو بكلمات برنارد ويليامز المفكر الذي «يعتبر عدم اليقين ميزة، وبدلا من تكوين قناعة، يستمتع ... بعدم الحسم المنمق.»

21

وهذا لا يعني أن دريدا لا يمتلك أي قناعات على الإطلاق.

بالنسبة لدريدا، القانون قابل للقياس، في حين أن العدالة غير قابلة للقياس. ولقد صارت نقاط الاختلاف بين الجانبين متوقعة الآن على نحو واضح؛ فالقانون «آلية تشريعية قابلة للتثبيت والقياس، ومنظومة من الأوامر المحددة والمدونة.» وهذا تعريف يتظاهر بالحياد لكنه يكشف عن عداء سري في كلمة من كلماته. أما العدالة، على النقيض، فهي «لا متناهية، وغير قابلة للقياس، وعصية على التطبيق، ولا تتسم بالاتساق، ومتباينة العناصر ومتعددة المستويات».

22

وهي تتخطى القواعد والخطط والحسابات. ومن الواضح بالقدر الكافي أي طرف في هذا المقارنة أكثر جاذبية لدى دريدا، حتى إذا كان هو ذلك الذي ينطوي على نفور من التحيز. وتلا هذه المقارنة محاولة فاترة بعض الشيء من جانب دريدا للإنصاف؛ فالمساواة والحقوق العامة، كما يزعم، لهما نفس أهمية ما هو متباين العناصر وفردي على نحو متفرد. فعلى المرء أن يسلم نفسه إلى «القرار المستحيل» مع «مراعاة» القوانين والقواعد. إن فضل العدالة على القانون لا ينبغي أن يصير ذريعة لتجنب المعارك التشريعية السياسية. ولكن هذا الجهد الساعي لتحقيق التوازن بين الطرفين تقوضه القرارية الأخلاقية عند دريدا التي تبدو أنها تعتبر الخيارات الأخلاقية الحقيقية متجاوزة للقواعد والأسباب. ولو أعطى دريدا ما هو محدد وزنه الحقيقي، فقد يحمل نفسه على الإقرار بأن الخيارات الأخلاقية تظل خيارات حتى عندما تكون مرتبطة بقواعد ومحكومة بقوانين. فاتباع القواعد، كما يشير فتجنشتاين في عمله «تحقيقات فلسفية»، ليس هو نفسه الالتزام بقانون؛ إذ إن تطبيق القواعد في حد ذاته ممارسة إبداعية، بل لن تكون هناك حرية دونه. لذا، فلا حاجة لإنقاذ القرارات من وطأة القواعد في سبيل الحفاظ على حريتها؛ فالقرارات ليست ضربا من الجنون، كما يرى دريدا على ما يبدو، بل هو ضرب من الجنون أن يعتقد ذلك.

ماذا يعني الزعم بأن العدالة لا متناهية؟ ربما هي لا متناهية بمعنى أن الرغبة فيها لا متناهية - وذلك كما رأينا في حالة شايلوك عند شكسبير ومايكل كولهاس عند كلايست - أو بمعنى أنه: حيث إنه لا توجد نهاية ظاهرة للظلم، فلا توجد نهاية للعدالة كذلك. لكن من المناسب أكثر أن تعتبر العدالة متناهية؛ فعطش شايلوك لها قد يكون بلا ارتواء، لكن الشيء الذي تتعلق به رغبته شيء يعتبره ببساطة حقه. إن الحياد هو ما يسعى وراءه؛ فالعدالة - كما الانتقام - قضية رد العين بالعين؛ إذ هي مسألة تقدير المزايا وحساب العوائد، وهي الممارسات التي ليست بأي حال من الأحوال دنيئة أو ضيقة الأفق بطبيعتها، كما قد يعتقد الواقعيون الأخلاقيون؛ إذ لا غضاضة في أن تطلب رد دين جعلك شبه معدم بعد أن ورث مدينك تركة كبيرة. وإذا كانت فكرة العدالة تسبب نوعا من الإشكالية لكل من ليفيناس ودريدا؛ فذلك لأن كليهما (لأسباب ليس أقلها أصولهما اليهودية) شغوفان بها عمليا، إلا أنهما في الوقت نفسه حذران من القانون والتشريع والقواعد والتبادلية، وكلها أشياء يشوهانها ظلما باعتبارها أخلاق المدينة وليس التسامي.

ثمة وجه يتمكن فيه دريدا من أن يجمع بين أمرين مستحيلين في نفس الوقت. فإذا تخلى عن الأخلاق - بمعنى الرضا الرتيب بخطابات تجريم استغلال الأطفال - فهو يفعل ذلك من أجل الأخلاق - بمعنى تحمل المسئولية أمام أوامر النظام الواقعي. وهو، على هذا المحمل، يكرر مفارقة النبي إبراهيم الذي أوشك على ذبح ابنه في كتاب كيركجارد «خوف ورعدة»؛ إذ هو ممزق بين واجبه المطلق تجاه رب يبدو ساديا وحبه لابنه إسحاق. أو هو بتعبير آخر: عالق بين الأخلاق - التي هي مسألة عمومية عند دريدا (وإن لم تكن عند ليفيناس) - وخصوصية الإيمان. يختار النبي إبراهيم، المدفوع بالأمر الإلهي بذبح ابنه، الرب على ما هو عمومي؛ يختار الفردية المطلقة لإيمانه بالرب على القوانين العامة؛ ومن ثم فهو مسئول وغير مسئول على حد سواء؛ فهو يصبو إلى النظام الواقعي، الذي طالما هو أسمى من الأخلاق، بدلا من التزامات النظام الرمزي. يؤكد دريدا على أن «القيم المطلقة للواجب والمسئولية تفترض في الوقت ذاته أن يهجر المرء ويدحض ويتجاوز كل واجب وكل مسئولية وكل قانون إنساني.»

23

Unknown page