116

Mushilat Maca Ghuraba

مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق

Genres

6

فلا ينبغي أن نخلط بين العالم الحسي، أو «القدرة على الحس» كما يسميها ليفيناس أحيانا، وبين شيء أدنى هو نتاج التجربة العملية كما عند هيوم أو سميث. إن «التقارب» شكل من أشكال التواصل بين الناس يعد أكثر قربا وحميمية من أي إدراك، بل وأكثر من أي شعور أو حدس معروف؛ فحضور الآخر يصلني بنفس السرعة وبصورة سابقة على التفكير كما عند هتشسون أو هيوم؛ فهو لا يعتمد على أي فعل أو نية أو مبادرة من طرفي. ولسنا نتحدث هنا عن وساطات النظام الرمزي حيث يتكون الوعي بسبب انعدام الآنية، ويولد من الفجوة بين فعل الإحساس لدى الذات والشيء المحسوس؛ فالذوات والأشياء بالمعنى المألوف ليست متعارضة إطلاقا. فإن كان الآخر الكبير شيئا متعلقا بالمعرفة، فهو شيء خاص بمعرفتي، وهكذا فهو لن يوجد على الإطلاق لأنه عجز عن الإفلات من الأنا المستهلكة لكل شيء.

إلا أن هناك عالما خياليا يخرج تماما من دائرة الإدراك لا يدعمني فيه الآخر الكبير بقدر ما يتفتت؛ فالعلاقة المميزة بين الذات والآخر الكبير تغادر العالم الخيالي لكن لا يغادر أي مما كان فيها من رضا عن النفس وتبادلية عفوية؛ فالانعكاس الذي قد يمتد لما لا نهاية للذوات عند فلاسفة القرن الثامن عشر يوقفه الآن عبء مسئوليتي الذي لا يطاق. يكتب ليفيناس قائلا: «إن الدوامة ... دوامة معاناة الآخر وشفقتي من معاناته وألمه لشفقتي وألمي لألمه، وهكذا تتوقف عندي.»

7

فالتبادلية تتحول إلى عدم تماثل؛ فدائرة المواجهة المباشرة تحتفظ بحميميتها السابقة على التفكير المتسمة برهاب الاحتجاز، لكن الروابط العاطفية المتدفقة بين الذات والآخر تنقطع لدرجة تجعل الآخر الكبير يتراجع هو وهالة النظام الواقعي المهيبة إلى منطقة تتجاوز الإنسانية الطبيعية أو العلاقات المعروفة. إن كان العالم الخيالي مجالا للتلقائية فإن المواجهة عند ليفيناس تشرد الذات وتزعجها فتلقي بتلقائية النفس بعنف في غيوم الشك. ويصر ليفيناس على أن الآخر الكبير ليس أنا بأي حال وأننا لا نتشارك الوجود. إن ما يربط كل منا بالآخر، إن جاز التعبير، هو اختلافنا؛ إن الحاجز الذي لا يمكن عبوره بين نفسي والآخر الكبير، الاختلال غير المحدود للعلاقة أو اللاعلاقة بيننا، هو الذي يشكل ماهيتي؛ فالرغبة هي رغبة الآخر الكبير تماما.

لكن أيا يكن الآخر الكبير هذا، فهو ليس مرضيا أو مرغوبا بالمعنى التقليدي. إن الاختلاف والغيرية المؤلمتين الخالصتين وليس الأنا البديلة المبهجة للنظام الخيالي مربط الفرس هنا؛ فنحن في عالم السمو اليهودي وليس عالم الحضور القابل للتحديد الإغريقي. ويحتقر ليفيناس بأسلوبه المعتاد المعارض لفكر التنوير مفهوم التماهي؛ لذا فإن فكرة التعاطف مع الآخر الكبير ليست محل نقاش إطلاقا. ومن هذا المنطلق فإن نظامه الأخلاقي يتمثل في الفرضية المضادة للنظام الخيالي. فبينما يعبر وجه الآخر عند فرانسيس هتشسون عن مشاعره، فإن ما يعبر عنه عند ليفيناس هو اللاتناهي؛ فالنظام الخيالي في عمله «الكلية واللانهاية» هو حيث نشعر بالألفة ونعيد اللانفس إلى سيادة التماثل والفردية. وفي هذه الحالة فإن العالم يستسلم لرغبتي ويندمج الآخر في النفس باعتباره مصدرا للمتعة حتى تصبح الغيرية لذة لا تهديدا. هنا إذا يكمن مكافئ ليفيناس لطور المرآة الذي هو بعيد في رأيه عن أن يكون أساسا لنظام أخلاقي صحيح.

يتسم الآخر الكبير عند ليفيناس بشيء من اللاإنسانية المستبدة، حيث يمثل حضوره الجسدي قانونا مخيفا أكثر من كونه أساسا للصداقة. فكأنما لغة العاطفة تستخدم في مجال يتجاوزها بقدر غير محدود. إن كان هذا عالما جسديا فهو عالم جسدي متكلف على نحو مثير للاشمئزاز، وهو بعيد عن مشاعر التعاطف اليومية عند هتشسون وهيوم. فما من تجانس أو دفء هنا، وما من سرور حيوي بوجود الآخر. يذكرنا هذا بتعليق بروس روبنز على فقرة من زيجموند باومان: «إن الجانب الآخر لتقديس باومان للموت في سبيل الآخر الكبير هو الاحتقار المتفاخر للحياة التقليدية وعدم الفهم الأعمى لأي سبب آخر قد تستحق من أجله الحياة أن تعاش.»

8

فنحن لا نتحدث عن التناغم والاتحاد والتعاطف وخلافه، بل عن «علاقة» أو تجل صامت يبدو أنه يسمو تماما فوق هذا الخطاب الأخلاقي التقليدي؛ فنحن باختصار على الجهة المقابلة من مبدأ المتعة. يشير ديفيد وود في عمله «الخطوة المتراجعة» إلى أن علاقة الالتزام غير المتماثلة يمكن الجمع بينها وبين علاقات الصداقة والتعاون. لكن ليس هذا الحال بالأساس كما يبدو عند ليفيناس.

يتسم الآخر الكبير في جانبه اللوام الاتهامي بشيء من القانون الرمزي وكذلك بعض من النظام الواقعي القاسي؛ فهو قانون مثل قانون كانط بلا مضمون أخلاقي ملموس. وهذا يحل إشكالية معينة عند ليفيناس؛ إشكالية يشترك فيها - كما سنرى لاحقا - مع عدد من رفاقه الفرنسيين؛ إذ إن خياله قليلا ما تستحوذ عليه فكرة النظام الرمزي الذي يرمز بدرجة كبيرة لما تسعى المواجهة مع الآخر الكبير لمنعه: الحرية، والتماثل، والاستقلال، والمساواة، والتبادل، والتمثيل، والمشروعية، والاجتماع، والمعيارية، والمفاهيمية، والحساب، والقياس، وقابلية الاستبدال، وغير ذلك. في معظم الأحوال يتسم ليفيناس بأسلوب كيركجارد النبيل في التعامل مع كل هذه الظواهر الرتيبة. لكن إن اختزل النظام الرمزي فيما لا يتعدى أمرا استبداديا لكنه فارغا - إن احتفظنا بمفهوم الواجب الكانطي لكن مع استبعاد الرؤية الملازمة له للناس باعتبارهم أحرارا متساوين قادرين على التبادل - فإن أبغض ما في النظام الرمزي يمكن استبعاده من تاريخ الفلسفة. فيمكننا أن نقول إن تصور ليفيناس عن واجب كانط شأنه شأن تصور جاك دريدا عنه متعلق بالالتزام دون التبادل. ومن بين نتائج هذا التحول هو أن الإلزام الرمزي يبدأ في الاندماج مع الأمر الغامض للنظام الواقعي؛ فبمجرد تجريده من الأساس العقلاني الذي يوفره له كانط، فهو يظهر في صورة غامضة لا أساس لها، وإن كان مطلقا في قوته مع ذلك - تماما لأن المطلق لا يمكن التعبير عنه - بما يتجاوز كل المنطق أو القواعد. إنه إذن عين الفرض الذي يشترطه مفكرو ما بعد البنيوية الذين يريدون الحديث عن الإلزام الأخلاقي مع التمسك بأفكارهم عن الغموض واللاتعين، وكذلك الاحتفاظ بهالة معينة من اللاتناهي.

Unknown page