102

Mushilat Maca Ghuraba

مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق

Genres

فالدخول إلى النظام الرمزي أو تأسيس علاقة مع الآخر الكبير يعني استبدال العلامة بالجسد؛ أي التخلي عن الحق في جسد الأم باعتباره ثمنا للحصول على اللغة والممارسة الجنسية والوجود الاجتماعي. أما الوعد المثالي للأفخارستيا في المقابل فيكمن في اتحاد الجسد والعلامة في شيء واحد. فوحده من يتخلى عن تصور زنا المحارم - كما يرى لاكان - هو من يستطيع الكلام. وبفضل هذا العبور وحده من النظام الخيالي إلى النظام الرمزي يمكن للفرد أن يكون ذاتا ومن ثم تكون لديه رغبة. إذا فشايلوك قد يكون داعيا أنطونيو لأن يخضع لمثل هذا التحول؛ للتضحية بجزء من هويته والامتناع عن جزء من متعته الجسدية من أجل تكوين علاقة مع الآخر الكبير الذي يمثله شايلوك بالنسبة له من أكثر من جانب. إن رطل اللحم هو «الشيء الجيد» بتعبير لاكان الذي يجب على الفرد التخلي عنه من أجل تحقيق رغبته. إنه الدال - في صورة عقد شايلوك - الذي يعتمد أنطونيو تماما عليه؛ لكن مثلما تقتل الكلمة فهي قد تهب الحياة أيضا. وصار هذان الرجلان مرتبطين ببعضهما بقطعة من الورق المكتوب عليها التي قد تكون قاتلة و(بتعبير شايلوك) «تسلية بهيجة» معا، دعابة لا تضر، وسخرية مسلية من عقد تجاري مباح في اليهودية. إن الاعتباطية الحمقاء لطلب شايلوك تتعارض مع قوالب النظام الرمزي بقدر ما تتعارض مع النظام الواقعي الذي تستدعيه.

يبين لاكان في تأملاته لمفهوم فرويد عن التسامي هذا التحويل لرغبة أولية إلى شيء أعلى في إشارة إلى سفر الرؤيا (10: 9) الذي يأمر فيه ملك الراوي بأكل لفافة من الورق. إن عبارة «خذه وكله!» ملخص تهذيبي كاف للعملية التي يصفها فرويد. فكأنما شايلوك يرغب في أكل أنطونيو على المستوى الرمزي، على مستوى الدال في عقده. فعلامات العقد - بطريقة أفخارستية - تمثل جسدا مقطع الأوصال، فنصه تسام سيميائي لتعطش شايلوك للحم أنطونيو؛ حيث يستوعب جسده في خطوة تذكر بالألفة والعدوان في النظام الخيالي. إذا فجميع نظم لاكان الثلاثة للوجود حاضرة في هذه الصفقة المركبة. بل إن لاكان نفسه يزعم أن الكلمة التي استخدمها سوفوكليس لوصف عناد أنتيجون الشديد قد تشير أيضا إلى آكل اللحوم النيئة.

يرى شايلوك أن اتفاقه مع أنطونيو اتفاق ودي («إنه إكرام مني لك»)، وهو تقييم ليس ساخرا تماما؛ فكلمة إكرام هنا تعني القرابة والإنسانية المشتركة كما تعني العطاء. من المدهش أن المرابي اليهودي سيئ السمعة يعطل حساباته الربوية المعتادة من أجل فعل مجاني أو مشهد كوميديا سوداء غريب، فيطلب أكثر وأقل مما يطلب عادة في مثل هذه الأحوال. صحيح أن أنطونيو يطلب منه مغازلة الموت كما هو الحال عامة عندما يواجه المرء النظام الواقعي؛ إلا أن احتمالات عجزه عن سداد دينه ضعيفة بدرجة تجعل العرض سخيا على نحو غير عادي. إن أنطونيو نفسه يرى ذلك، وإن كان بأسلوبه المتعالي يوافق على الصفقة متخذا صورة عدو لا صديق. إن المعاملة التي تحوي بعضا من النظام الواقعي عند شايلوك نفسه يعتبرها أنطونيو معاملة رمزية أو عملية بحتة، ويرفض في تعال روح الاتفاق، كما يرفض الدفاع المراوغ لبورشيا لاحقا روح اتفاق شايلوك أو معناه البديهي.

إن فكرة بورشيا عن أن العقد لا يشير إلى الحديث عن الدم هي مراوغة انتهازية مستفزة، فهي خلط قانوني يحرر به المسيحيون واحدا منهم من المساءلة بينما يسلبون شايلوك بضائعه تحت غطاء من الحديث عن الرحمة. إن العقد بالتأكيد لا ينص على أن الدائن له أن يريق دم أنطونيو وهو يقتطع جزءا من لحمه، لكن هذا استنتاج منطقي من النص، كما قد تقر أي محكمة في الواقع؛ فمن غير المعقول القول إن الوثيقة لكي تكون سليمة قانونا يجب أن تذكر كل ظرف ممكن للموقف الذي تشير إليه. وكما تقر بورشيا نفسها، فإن العقد لا ينص على حضور جراح، وإن كان هذا - كما تقول هي نفسها - بندا جيدا. فهي بالمبالغة في التفسير الحرفي لعقد شايلوك يخونها معناه على نحو واضح. من الممكن أن يوجد إفراط في التدقيق (الذي يمثل تشدد شايلوك نفسه مثالا آخر عليه) مثلما يوجد تفريط (مثل تبذير تيمون الأثيني العصابي) يبطل الإجراء بصورة مدمرة. إن تدقيق شايلوك في تحديده لما لا يزيد عن الرطل من لحم خصمه مفرط في دقته؛ حيث إنه شبه مؤكد أنه بأخذه الرطل سيأخذ في الغالب قطعة أكبر منه.

لا يسع شايلوك أن يفوز؛ لأن مطلبه الحقيقي هو التقدير لا الانتقام. لكنه لا يمكنه أن يخسر كل شيء أيضا؛ حيث إن قضيته تخاطر بإجبار السلطة في البندقية على تشويه صورتها؛ إذ بمعاقبتها إياه على إلحاحه اليهودي ينكشف عنادها هي الأخرى، وتتفوق على تقيده «اللاإنساني» بالقانون. وفي النهاية وبسبب تجرؤ شايلوك على السعي لاسترداد دين ملزم قانونا، تصادر بضائعه على يد السلطات، ويجبر على التحول للمسيحية. ويأتي رده اليائس بأن يطلب من المحكمة أن تنهي حياته بدلا من ذلك. إلا أن اليهودي في تلك اللحظة قد كشف زيف عدالة المسيحيين، فضبطه لهم متلبسين في احتيال قانوني محدد يعني وصم قانونهم عامة بالعار، مثلما يؤثر إقراض المال دون فوائد كما يفعل أنطونيو على سعر الفائدة العام في المدينة. ولا يكاد يستغرق شايلوك أي وقت ليدرك هذه الحقيقة:

رطل اللحم الذي أطالبكم به قد بذلت فيه ثمنا غاليا،

فهو لي إذن وسآخذه.

فإن أبيتم، فاللعنة على قوانينكم!

قوانين البندقية التي لا تطبق. (4، 1: 99-102)

إنها نقطة قوية، ومفحمة على نحو كاف لتقنع أنطونيو نفسه، فيرى أنطونيو أن الموقف سيبدو في صورة سيئة في أعين شركاء البندقية التجاريين؛ وقد يؤدي من ثم إلى كارثة اقتصادية. فهل ستظل السلطة إذن غير مبالية بالأفراد، فتعاقب واحدا من المنتمين المحترمين إليها من أجل شخص غريب مكروه؟ إن لم تفعل فهي تخاطر بتفكيك نظامها ذاته، وتسمح لبورشيا باستخدام عين المراوغة اللاموضوعية التي من المفترض أن يمنعها القانون. وقد تكون النتيجة النهائية لهذا العبث في التأويل هي الفوضى السياسية، وهما نوعان من عدم الالتزام يتلازمان بشدة في ذهن شكسبير.

Unknown page