نفقات المرافعات والدفاع والقضايا المختلفة تكون على الحكومة أو المجتمع. وفي ذلك - فضلا عن المنافع الجمة - رادع عن الرشوة في بلاد تستعمل فيها الرشوة، ورادع لجشع بعض المحامين الواسعي الضمير.
ثامنا:
أن يفرق في السجون بين المساجين حسب مراتبهم وأخلاقهم؛ فإن الثمرة الصالحة لا تعدي الثمرة الفاسدة، ولكن فساد الثمرة الواحدة يمتد إلى مئات الأثمار الصالحة. ولما كان الغرض من السجن كف أذى الجاني عن المجتمع، كان من الظلم أن يكون السجن مفسدة للجاني؛ فلا يجوز أن تمنع عنه الكتب والصحف وما يطلبه من وسائل التثقيف سواء في العلم والفن والمهنة. ويجب أن يشتري طعامه ولباسه بعمله في السجن شأنه في المجتمع، وألا يحقر ويذل، بل يكون هناك في خلوة فيها يشعر بأنه أخطأ دون أن يرى في النوع الإنساني بأسره عدوا وجلادا، لئلا تنقلب قوى نفسه خوفا وكرها، ومرارة ورغبة في الفتك والانتقام.
تاسعا:
يقولون إن العضو الفاسد في المجتمع يقطع. نعم، على شريطة أن يصيب الطبيب في الحكم بالفساد، لا أن يعود يبرأ المسكين بعد تنفيذ الإعدام فيه كما وقع في بلاد كثيرة. ثم فليجرد الإعدام من مظاهر القسوة التابعة له، كإيقاظ المحكوم عليه من رقاده الأخير لأن ساعة التنفيذ دنت، وإلباسه تلك البذلة القرمزية، وإحاطته بجميع تلك الأمور الرهيبة، وتلاوة الحكم عليه في آخر لحظة من حياته فلا يرى حوله إلا وجوها صارمة، ولا يلمس إلا اليد الفاتكة؛ كل ذلك لم ينفع إلى الآن في ردع أحد، لا سيما وأن تلك الرهبة لا يراها سوى المحكوم عليه؛ فليكن الإعدام إذن بالكهرباء، أو بطريقة سريعة جدا تقضي على الجاني بلحظة دون أن ينتظر وقوعها دقيقة بعد أخرى ويوما بعد يوم. هذا بعد إبلاغه الحكم بمدة كافية ليهيئ نفسه للموت، ولتعيد المحكمة نظرها في القضية فتكون على ثقة من صلاحية الحكم.
أما المبالغ الضرورية للقيام بالنفقات المذكورة في الاقتراحات الأولى، فيؤتى بها من ضرائب سنوية تفرضها الحكومة باعتبار الثروات. وكل يؤدي الضريبة راضيا إذا ضمنت له ما قد يبذل المبالغ الطائلة عن الحاجة إليه.
لا أزعم أن فكري تم نضوجه، بل أرجو أن يظل قابلا للرقي والتطور طول حياتي. ولكن لا أشك في أن هذه الإصلاحات ستتم في المجتمع عاجلا أو آجلا على وجه ما؛ لأني شاعر بأن لا غنى عنها وأن إهمالها جرم متجدد مع الأيام. المجتمع ينيل الفرد حياة لم يطلبها هو؛ فعلى المجتمع إذن أن يهيئ للفرد إمكانية هذه الحياة حسيا واجتماعيا ومعنويا، ثم فليفتح له ميدان المسابقة لتبرز بها ملكاته ومواهبه. وأعتقد أن الإحسان إلى الناس لا يقوم بإعطائهم مالا وقوتا وأثوابا يتمتعون بها بلا تعب فيحسبون الحصول عليها من حقوقهم، بل الإحسان إليهم هو في فتح عيونهم على المقدرة الكامنة فيهم، وتنبيههم إلى وجوب تبادل الحقوق والواجبات، وإفهامهم أن الذي لا يؤدي واجبا فلا حق له.
بين الأستاذ سامي الذي ينكر السعادة، وصديقي عوني الذي يرى كل السعادة في حذف رأس المال ومحو الفروق بين المراتب، أقف أنا قائلا بأن هناك سعادة ممكنة؛ فقد سعدت في حياتي أياما وأسابيع، وكل الناس عرفوا طعم السعادة وطعم الشقاء. ولعل السعادة والشقاء مزاج أكثر منهما حالة نفسية؛ فمن البشر من خلق سعيدا أو تعسا، كما أن منهم الباسم والعابس، الشره والقانع ، البدين والهزيل، ولكن يتحتم أن يؤدي المجتمع كل ما يمكنه أن يؤديه لأعضائه، وهو إلى الآن غير فاعل. المجتمع أيضا يطالب بحقوق كثيرة ويؤدي واجبات قليلة. فلا غرو أن يحذو أعضاؤه حذوه.
ها أنا ذا وقعت فيما اتهمت الأحزاب به، وخلقت لي لغة مسهبة لأقول شيئا قليلا. ثم ما منفعة اقتراحاتي - على أهميتها ولجاجتها - في هذا الزمن العصيب؟ إن الأرض لترتج تحت أقدامنا والهواء يحمل إلينا ما قد يكون لهيبا ودخانا لحريق سحيق. فالنظم الاجتماعية تتطور ككل شيء حيوي - كما قلت في مقالاتك وكما هو الواقع - فلننتظر إذن ما هو كائن؛ لأني أرى الإنسانية الآن كالأفعى تغير ثوبها، أراها كالجو يتعاقب فيه السكون والزوابع، الصفاء والغيوم، النجوم والأمطار. كفانا أن نرقب سير الحوادث متكلين على نفوسنا، محدقين في وجه الحياة بلا وجل، مستعدين لتبين الصلاح والحقيقة. ونحن أبدا كالأرض أمنا التي تقبل البذور الصالحة ثم ترسلها غلة وخيرا، وإذا هوت عليها الأشجار اليابسة تجمدت في حضنها مادة للنار واللهيب. ولنكن أبدا مطلقين هذا الهتاف الجامع بين الإخلاص والحيرة، بين الزفير والابتهال: ها أنا ذا وحدي أيها الليل، فعلمني ما يجب أن أعلم! ها أنا ذا مستعد أيتها الحياة، فسيريني حيث يجب أن أسير!
عارف
Unknown page