الفصل العاشر
رسالة عارف
إلى مي
وأنا أيضا كالسيدة جليلة، تتبعت مقالاتك عن «المساواة»؛ فرأيتك تارة تهيمين بين الانقلابات العمرانية، وطورا تهبين لتطلقي في أحد فروع الموضوع حكما جزئيا لم يكن ليتوقع سواه قارئ أول فصولك عن «الطبقات الاجتماعية»، بل لا يتوقع سواه ذو عينين تبصران ولب يعقل.
خططت العنوان وأدرت الطرف فيما حولك فشاهدت تعدد الموجودات وتمايز الأنام فنقلت قسرا تلك الصورة المتجددة في البرية؛ صورة التطور من أدنى الكائنات إلى أرقاها، وخضوع الوحدات الصغيرة للوحدات الكبيرة، ووجوب الفناء لاستمرار البقاء؛ وهو الغاية المثلى التي تضمحل في سبيلها الصور والآجال.
كذلك قرأت باهتمام تدوين مناقشتنا الأخيرة منتظرا منك الحكم النهائي. ولقد ذكرت أنك شكلت من قواك «هيئة محلفين»، ولكن نسيت أن مثل تلك الهيئة لا تنهي القضايا على الوجه الذي اخترت، وإنما عليها أن تهيئ حكما ما، للدائرة العليا نقضه أو إبرامه.
بيد أني أفهم أن الأبحاث التاريخية والمواقف الأدبية هي غير المحاكم والقضاء، وأفهم كل الفهم معنى ابتهالك لليل والحياة. ولكم ناديت الليل واستغثت بالحياة عند التباس المسالك واشتداد الخطوب! ولكم أحبطني العي والقنوط عندما جاءت الوقائع تكذب ما أنا في حرارة إخلاصي عضدته وعززته! فعقب فشل آمالي الشك الأليم وصرت أود سحق المخادعة والرياء سحقا. أما التحمس الصادق فله مني مزيج اعتبار وشفقة؛ لذلك أقدر تحمس عوني وأشفق عليه جميعا - وإن حاولت إخفاء مشاعري وراء نبرات التهكم والمناوشة.
لقد تألم صديقي شديدا، وكيف لا يتألم في محيطنا الأناني من كان له من عوني رقة العواطف ونبل الفكر وسمو الميول؟ غير أن ألمه ناقص؛ لأنه جاءه من فئة واحدة من الناس؛ فئة العظماء والأغنياء والأشراف. فتخيل أن الرذيلة تحصنت في القصور وأن الفضيلة استوطنت الأكواخ، وحسب السعادة حيث الرغد، والتعاسة حيث الشظف، ولم يفهم الحرمان بغير معناه الظاهر؛ ومن هنا مبعث خطئه وتحمسه معا.
وكنت في البدء مثله هو وجماعته؛ أرى الحاجة كل الحاجة في فراغ اليد فأنادي بالمساعدة دون حساب ، وأتمنى أن يكون لحمي للجائع قوتا ودمي للظامئ شرابا، والخلل حولي كنت أظنه خللا في فقط، وزعمت جميع النفوس من درجة واحدة فمضيت أجاهد لإعلائها إلى أوج قطنته تلك النفوس القليلة التي وضعتها الحياة على طريقي فأثار النبل منها احترامي وإعجابي.
شببت فإذا بي مخطئ، وأن ما في من خلل منشؤه الطبيعة البشرية المتوازنة أجزاؤها نقصا وكمالا، ورأيت أن أنانية تسربلت بالحرير ليست بأطمع من أنانية ارتدت الأطمار، وأن كبرياء بدت في التشامخ والصمت والتأله ليست بأكره من كبرياء توارت في التذلل والتوسل والنحيب. وتبينت في كل مرتبة أثرة وتحيزا واستعدادا قصيا للجور والطغيان، بل تبينت ذلك في كل فرد من أفراد المرتبة الواحدة والأسرة الواحدة. وعلمت أن بعض العقول قفر، وبعض القلوب صخر، وبعض النفوس رموز حية لليأس والنكد، وبعض الصور البشرية انعكاس لتمثال الشقاء الدائم، وأدركت للحرمان معاني جمة.
Unknown page