218

Murug al-dahab wa-maʿadin al-gawhar

مروج الذهب ومعادن الجوهر

تنازع الناس في الكهانة: فذهبت طائفة من حكماء اليونانيين والروم إلى التكهن، وكانوا يدعون العلوم من الغيوب، فادعى صنف منهم أن نفوسهم قد صفت فهي مطلعة على أسرار الطبيعة، وعلى ما تريد أن يكون منها؛لأن صور الأشياء عندهم في النفس الكلية، وصنف منهم ادعى أن الأرواح المنفردة - وهي الجن - تخبرهم بالأشياء قبل كونها، وأن أرواحهم كانت قد صفت، حتى صارت لتلك الأرواح من الجن متفقة.

وذهب قوم من النصارى أن السيد المسيح إنما كان يعلم الغائبات من الأمور، ويخبر عن الأشياء قبل كونها؛ لأنه كانت فيه نفس عالمة بالغيب، ولم كانت تلك النفس في غيره من أشخاص الناطقين لكان يعلم الغيب، ولا أمة خلت إلا وقد كان فيها كهانة، ولم يكن الأوائل من الفلاسفة إليونانية يدفعون الكهانات، وشهر فيهم أن فيثاغورس كان يعلم علومأ من الغيب وضروبا من الوحي؛لصفاء نفسه وتجردها من أدران هذا العالم، والصابئة تذهب إلى أن أوريايس الأول وأوريايس الثاني - وهما: هرمس!، وأغاثيمون - كانوا يعلمون الغيب، ولذلك كانوا أنبياء عند الصابئة، ومنعوا أن تكون الجن أخبرت من ذكرنا بشيء من ضروب الغيب، لكن صفت نفوسهم حتى اطلعوا على ما استتر عن غيرهم من جنسهم.

وطائفة ذهبت إلى أن التكهن سبب نفساني لطيف يتولد من صفاء مزاج الطباع، وقوة النفس،. ولطافة الحس.

وذكر كثير من الناس أن الكهانة تكون من قبل شيطان يكون مع الكاهن يخبره بما غاب عنه، وأن الشياطين كانت تسترق السمع وتلقيه على ألسنة الكهان فيؤدون إلى الناس الأخبار، بحسب ما يرد إليهم، وقد أخبر الله عز وجل بذلك في كتابه فقال: " وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشبها " و إلى آخر القصة، وقوله تعالى: " يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا " وقوله تعالى: " وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم " الآية والشياطين والجن لا تعلم الغيب، وإنما ذلك لاستراقها السمع مما تسمع من الملائكة بظاهر قوله عز وجل: " فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين " .

وطائفة ذهبت إلى أن وجه سبب الكهانة من الوحي الفلكى، وأن ذلك يكون في المولد عند ثبوت عطارد على شرفه، وأما ما عداه من الكواكب المدبرات من النيرين والخمسة إذا كانت في عقد متساوية وأرباع. متكافئة ومناظر متوازية وجب لصاحب المولد التكهن والإخبار بالكائنات قبل حدوثها؛ لإشراق هذه الأشراق الكوكبية، ومن هؤلاء من أوجب كون ذلك في القرانات الكبار.

وذهب كثير ممن تقدم وتأخر أن علة ذلك علل نفسانية، وأن النفس إذا قويت وزادت قهرت الطبيعة، وأبانت للإنسان كل سر لطيف، وخبرته بكل معنى شريف، وغاصت بلطافتها في انتخاب المعاني اللطيفة البديعة فاقتنصتها وأبرزتها على الكمال، وكشفت هذه الطائفة وجه اعتلالها فيما ذكرنا؛ فإنهم قالوا: رأينا الإنسان ينسب إلى قسمين، وهما النفس والجسد، ووجدنا الجسد مواتا لا حركة له ولا حس إلا بالنفس، وكان الميت لا يعلم شيئا ولا يؤذيه؛ فوجب أن يكون العلم للنفس، والنفوس طبقات: منها الصافي وهي النفس الناطقة، ومنها الكدر، وهي النفس الحسية والنفس النزاعية والنفس المتخيلة، ومنها ما قوته في الإنسان أزيد من قوة الجسم، ومنها ما قوة الجسم أزيد منه، فلما كانت النسبة النورية للإنسان إلى النفس كانت تهدي الإنسان إلى استخراج الغيب وعلم الآتي، وكانت فطنته وظنونه أبعث وأعم؛فإذا كانت النفس في غاية البرور ونهاية الخلوص وكانت تامة النور وكاملة الشعاع كان تولجها في دراية الغائب بحسب ما عليه نفوس الكهنة، وبهذا وجد الكهان على هذه السبيل من نقصا في الأجسام وتشويه الخلق، كما اتصل بنا عن شق وسطيح وسملقة وزوبعة وسديف بن هوماس وطريفة الكاهنة وعمران أخى مزيقياء وحارثة وجهينة وكاهنة باهله وأشباهه من الكهان.

العرافة وبعض العرافين

وأما العراف - وهو دون الكاهن - فمثل الأبلق الأزدي، والأجلح الدهري، وعروة بن زيد الأزدي،ورباح بن عجلة عراف اليمامة الذي قال فيه عروة:

جعلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف نجد إن هما شفياني

وكهند صاحب المسننبرن وكان في نهاية التقدم في العرافة.

الكهانة في العرب

Page 237