182

Murug al-dahab wa-maʿadin al-gawhar

مروج الذهب ومعادن الجوهر

ثم ملك بعده ذو شناتر، ولم يكن من أهل بيت الملك، فغري بالأحداث من أبناء الملوك، وطالبهم بما تطالب به النسوان، وأظهر الفسق باليمن واللواط، وعدل مع ذلك في الرعية، وأنصف المظلوم، وكان ملكه ثلاثين سنة، وقيل: تسعا وعشرين سنة، وقتله يوسف ذو نواس، وكان من أبناء الملوك، خوفا على نفسه، وأنفة أن يفسق به. ثم ملك بعده يوسف ذو نواس بن زرعة بن تبع الأصغر بن حسان بن كليكرب، وقد ذكرنا خبره في غير هذا الموضع من كتبنا، وما كان من أمره مع أصحاب الأخدود، وتحريقه إياهم بالنار، وهم الذين خبر الله تعالى عنهم في كتابه فقال: " قتك أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود " و إليه عبرت الحبشة من بلاد ناصع والزيلع، وهو ساحك الحبشة على حسب ما ذكرنا، إلى بلاد غلافقة من ساحل زبيد من أرض اليمن، فغرق يوسف نفسه بعد حروب طويلة خوفا من العار؛ وكان ملكه مائتي سنة وستين سنة، وقيل أقل من ذلك، وذلك أن النجاشي ملك الحبشة لما بلغه فعل ذي نواس بأتباع المسيح عليه السلام، وما يعذبهم به من أنواع العذاب والتحريق بالنار بعث إليه الحبشة وعليهم أرباط بن أصحمة فملك اليمن عشرين سنة.

أبرهة أبو يكسوم

ثم وثب عليه أبرهة الأشرم أبو يكسوم فقتله وملك اليمن، فلما بلغ ذلك من فعله إلى النجاشي غضب عليه، وحلف بالمسيح أن يجزا ناصيته، ويريق دمه، ويطأ تربته - يعني أرض اليمن - فبلغ ذلك أبرهة فجز ناصيته وجعلها حق من العاج، وجعل من دمه في قارورة، وجعل من تراب اليمن في جراب، وأنفذ ذلك إلى النجاشي ملك الحبشة، وضم إلى ذلك هدايا كثيرة وألطافا، وكتب إليه يعترف بالعبودية، ويحلف له بدين النصرانية أنه في طاعته، وأنه بلغه أن الملك حلف بالمسيح أن يجز ناصيته ويريق دمه ويطأ أرضه، وقد أنفذت إلى الملك ناصيتي فليجزها بيده، وبدمي في قارورة فليهرقه، وبجراب من تربة بلادى فليطأ بقدميه، وليطفئ الملك عني غضبه، فقد أبررت يمينه، وهو على سرير ملكه، فلما وصل ذلك إلى النجاشي استصوب رأيه، واستحسن عقله، وصفح عنه وكان ذلك في ملك قباذ ملك فارس.

وأبرهة أبو يكسوم هو الذي سار بأصحاب الفيل إلى مكة لإخراب الكعبة، وذلك لأربعين سنة خلت من ملك كسرى أنو شروان، فعدل إلى الطائف فبعثت معه ثقيف بأبي رغال ليدله على الطريق السهل إلى مكة، فهلك أبو رغال في الطريق بموضع يقال له المغفس بين الطائف ومكة، فرجم قبره بعد ذلك والعرب تتمثل بذلك وفي ذلك يقول جرير بن الخطفي في الفرزدق.

إذا مات الفرز دق فارجموه ... كما ترمون قبر أبي رغال

وقال المسعودي رحمه الله، وقيل: إن أبا رغال وجهه صالح النبي صلى الله علية وسلم على صدقات الأموال، فخالف أمره، وأساء السيرة، فوثب عليه ثقيف - وهو قيس بن منبه - فقتله قتلة شنيعة لسوء سيرته في أهل الحرم،فقال غيلان بن سلمة وذكر قسوة أبيهم ثقيف على أبي رغال نحن قسي وقسا أبونا وفي ذلك يقول أمية بن أبي الصلت الثقفي:

نفوا عن أرضهم عدنان طرا ... وكانوا للقبائل قاهرينا

وهم قتلوا الرئيس أبارغال ... بمكة إذ يسوق بها الوضينا

وفي ذلك يقول عمرو بن دراك العبدي:

تراني إن قطعت حبال قيس ... وخالفت المرور على تميم

لأعظم فجرة من أبي رغال ... وأجور في الحكومة من سدوم

وقال مسكين الدأرمي:

وأرجم قبره في كل عام ... كرجم الناس قبر أبي رغال

وسنورد فيما يرد من هذا الكتاب قصه الحبشة وورودهم الحرم وما كان من أمرهم في ذلك.

قال: وفي طريق العراق إلى مكة - وذلك بين الثعلبية والهبير نحو البطان - موضع يعرف بقبر العباعي، ترجمه المارة إلى هذه الغاية كما ترجم قبر أبي رغال، وللعباعي خبر ظريف قد أتينا على ذكره في كتاب أخبار الزمان وفي كتاب حدائق الأذهان وفي أخبار أهل البيت رضي الله عنهم.

فكان ملك أبرهة على اليمن إلى أن هلك بعد أن رجع من الحرم وقد حسقطت أنامله وتقطعت أوصاله حين بعث الله عليه الطير الأبابيل ثلاثا وأربعين سنة.

وكان قدوم أصحاب الفيل مكة يوم الأحد لسبع عشرة ليلة خلت من المحرم سنة ثمانمائة واثنتين وثلاثين سنة للاسكندر وست عشرة سنة ومائتين من تاريخ العرب الذي أوله حجة الغدر.

وسنذكر بعد هذا في الموضع المستحق له من هذا الكتاب جملا من تاريخ العالم وتاريخ الأنبياء والملوك، في باب نفرده لذلك إن شاء الله تعالى.

ثم ملك اليمن بعد أبرهة الأشرم ولده يكسوم، فعم أذاه سائر اليمن، وكان ملكه إلى أن هلك عشرين سنة.

مسروق بن أبرهة

Page 200