Murug al-dahab wa-maʿadin al-gawhar
مروج الذهب ومعادن الجوهر
والبر - يا أمير المؤمنين - أفضل قطع الأرض وأسناها، وأشرفها وأعلاها، نحو الأنجاد والتهائم، لحماية الهواء الأقذاء عن سكانه، ودفعه الآفات عن قطانه، وسماحة المثوى، وتهذيب الماء، وصحة المتنسم، وارتفاع الأكدار، وذهاب الأضرار. واعلم - يا أمير المؤمنين - أن الله تبارك وتعالى قسم الأرض أقساما فضل بعضها على بعض، فأفضل أقس أمه ا العراق، فهو سيد الآفاق، وقد سكنه أجيال وأمم ذوو كمال.
الهند والصين
وأما الهند والصين وبلاد الروم فلا حاجة بي إلى وصفها لك، لأنها منازل شاسعة، وبلدان نائية، كافرة طاغية.
وفي الذي ذكرته لك ما أشفى بك إلى ما شفرت إلى علمه، وكل ما وصفته في هذه البلدان فهو الأعم من أمور أهلها، والأغلب على أحوالهم، فإن وجد فيهم أحد بخلاف ذلك فهو النادر يا أمير المؤمنين، والحكم في ذلك للأغلب.
كعب الأحبار يصف لعمر العراق
قال المسعودي: وذكر جماعة من أهل العلم بالسير والأخبار أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أراد الشخوص إلى العراق - حين بلغه ما عليه الأعاجم من الجمع ببلادهم - سأل كعب الأحبار عن العراق، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله لما خلق الأشياء ألحق كل شيء بشيء، فقال العقل: أنا لا حق بالعراق، فقال العلم: وأنا معك، فقال المال: وأنا لاحق بالشام، فقالت الفتن: وأنا معك، فقال الخصب: وأنا لاحق بمصر، فقال الذل: وأنا معك، فقال الفقر: وأنا لاحق بالحجاز فقالت القناعة: وأنا معك فقال الشقاء: وأنا لاحق بالبوادي، فقالت الصحة: وأنا معك.
وصف إقليم بابل وحنين المؤلف إليه
قال المسعودي: وأوسط الأقاليم الإقليم الذي و لدنا به، وإن كانت الأيام أنأت بيننا وبينه، وساحقت مسافتنا عنه، وولدت في قلوبنا الحنين إليه، إذ كان وطننا ومسقطنا، وهو إقليم بابل، وقد كان هذا الإقليم عند ملوك الفرس جليلا، وقدره عظيما، وكانت عنايتهم إليه مصروفة، وكانوا يشتون بالعراق، وأكثرهم يصيفون بالجبال، وينتقلون في الفصول إلى الصرود من الأرض والحرور، وقد كان أهل المروءات في الإسلام كأبي دلف القاسم بن عيسى العجلي وغيره يشتون في الحرور، وهو العراق، ويصيفون في الصرود، وهي الجبال، وفي ذلك يقول أبو دلف:
وإني امرؤ كسروي الفعال ... أصيف الجبال وأشتو العراقا
وذلك لما خص به هذا الإقليم من كثرة مرافقه، واعتدال أرضه، وغضارة عيشه، ومادة الوافدين إليه، وهما دجلة والفرات، وعموم الأمن فيه، وبعد الخوف عنه، وتوسطه الأقاليم السبعة، وقد كانت الأوائل تشبهه من العالم بالقلب من الجسد؛لأن أرضه من إقليم بابل الذي تشعبت الآراء عن أهله بحكمة الأمور كما يقع ذلك عن القلب، وبذلك اعتدلت ألوان أهله واقتدرت أجس أمه م، فسلموا من شقرة الروم والصقالبة، وسواد الحبشة، وغلظ البربر، ومن جفا من الأمم، واجتمعت فيهم محاسن جميع الأقطار، وكما اعتدلوا في الجبلة وكذلك لطفوا في الفطنة، والتمسك بمحاسن اللأمور، وأشرف هذا الإقليم مدينة السلام، ويعز علي ما أصارتني إليه الأقدار من فراق هذا المصر الذي عن بقعته فصلنا، وفي قاعته تجمعنا، لكنه الزمن الذي شيمته التشتيت، والدهر الذي من شروطه الإبانة ولقد أحسن أبو دلف العجلي حيث يقول:
أيا نكبة الدهر التي طوحت بنا ... أيادي سبا في شرقها والمغارب
قفي بالتي نهوى فقد طرت بالتي ... إليها تناهت راجعات المصائب
الحنين إلى الأوطان
وقد ذكر الحكماء - فيما خرجنا إليه من هذا المعنى - أن من علامة وفاء المرء ودوا أم عهده حنينه إلى إخوانه، وشوقه إلى أوطانه، وبكاءه على ما مضى من زمانه، وأن من علامة الرشد أن تكون النفوس إلى مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها تؤاقة، وللإلف والعادة قطع الرجل نفسه لصلة وطنه.
Page 195