Murug al-dahab wa-maʿadin al-gawhar
مروج الذهب ومعادن الجوهر
ذكر أخبار الإسكندرية وبنائها وملوكها وعجائبها وما ألحق بهذا الباب
اختيار الموضع
ذكر جماعة من أهل العلم أن الإسكندر المقدوني لما استقام ملكه في بلاده سار يختار أرضا صحيحة الهواء والتربة والماء، حتى انتهى إلى موضع الإسكندرية فأصاب في موضعها آثار بنيان عظيم وعمدأ كثيرة من الرخام، وفي وسطها عمود عظيم عليه مكتوب بالقلم المسند - وهو القلم الأول من أقلام حمير وملوك عاد - أنا شداد بن عاد بن شداد بن عاد، شددت بساعدى البلاد، وقطعت عظيم العماد، من الجبال والأطواد، وأنا بنيت إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، وأردت أن أبني ههنا كإرم، وأنقل إليها كل في إقدام وكرم، من جميع العشائر والأمم، وذلك إذ لا خوف ولا هرم، ولا اهتمام ولا سقم، فأصابني ما أعجلني، وعما أردت قطعني مع وقوع ما أطال همي وشجني، وقل نومي وسكني، فارتحلت بالأمس عن داري لا لقهر ملك جبار، ولا لخوف جيش جرار، ولا عن رهبة ولا عن صغار، ولكن لتمام المقدار، وانقطاع الأثار، وسلطان العزيز الجبار، فمن رأى أثري، وعرف خبري، وطول عمري، ونفاذ بصري، وشدة حفري، فلا يغتر بالدنيا بعدي، فإنها غرارة تأخذ منك ما تعطي، وتسترجع ما تولي. وكلام كثير يري فناء الدنيا ويمنع من الاغترار بها والسكون إليها.
ونزل الإسكندر متفكرا يتدبر هذا الكلام ويعتبره، ثم بعث فحشر الصناع من البلاد،. وخط الأساس، وجعل طولها وعرضها أميالا، وحشد إليها العمد والرخام، وأتته المراكب فيها أنواع الرخام. وأنواع المرمر والأحجار، من جزيرة صقلية، وبلاد إفريقية، وإقريطش، وأقاصي بحر الروم مما يلي مصبه من بحر أوقيانوس، وحمل إليه أيضا من جزيرة روعس وهي جزيرة مقابلة للإسكندرية على ليلة منها في البحر، وهي أول بلاد الإفرنجة، وهذه الجزيرة في وقتنا هذا، وهو صنة اثنتين وثلانين وثلثمائة، دار صناعة لم لروم، وبها تنشأ المراكب الحربية، وفيها خلق كثير من الروم، ومراكبهم تطرق بلاد الإسكندرية وغيرها من بلاد مصر فتغير وتأسر وتسبي. وأمر الإسكندر الفعلة والصناع أن يدوروا بما رسم لهم من أساس سور المدينة، وجعل على كل قطعة من الأرض خشبة قائمة، وجعل من الخشبة إلى الخشبة حبالا منوطة بعضها ببعض، وأوصل جميع ذلك بعمود من الرخام، وكان أمام مضربه، وعلق على العمود جرسا عظيما مصوتا، وأمر الناس والقؤام على البنائين والفعلة والصناع أنهم إذا سمعوا صوت ذلك الجرس وتحركت الحبال وقد علق على كل قطعة منها جرسا صغيرا حرصوا على أن يضعوا أساس المدينة دفعة واحدة من سائر أقطارها، وأحب الإسكندر أن يجعل ذلك في وقت يختاره في طالع سعيد، فخفق الإسكندر برأسه وأخذته سنة في حال ارتقابه الوقت المحمود المأخوذ فيه الطالع، فجاء غراب فجلس على حبل الجرس الكبير الذي فوق العمود فحركه، وخرج صوت الجرس وتحركت الحبال، وخفقت ما عليها من الأجراس الصغار، وكان ذلك معمولا بحركات فلسفية، وحيل حكمية، فلما رأى الصناع تحرك تلك الحبال وسمعوا تلك الأصوات وضعوا الأساس دفعة واحدة، وارتفع الضجيج بالتحميد والتقديس، فاستيقظ الإسكندر من رقدته وسأل عن الخبر، فأخبر بذلك، فعجب وقال: أردت امرأ وأراد الله غيره، ويأبى الله إلا ما يريد، أردت طول بقائها، وأراد الله سرعة فنائها وخرابها وتداول الملوك إياها.
Page 164