أثناء جلوسه على مقعد مرتفع واضعا قدميه على قضيب قبالة منضدة، صارت الملابس التي استعارها أكثر التصاقا بجسمه، فأدرك أن لديه جيبا خلفيا في سرواله يحتوي على شيء أحس من ملمسه أنه قد يكون عدة أشياء؛ لكن في المحاولة الأولى استقر تخمين جيمي على أنه محفظة نقود. ثم خطر له أنه قد يكون من المستحسن، ما دام جيب واحد قد أثمر عن قوت يوم على الأقل، أن يفتش في الجيوب كلها. ومن ثم بدأ بجيب الصدر الخارجي في المعطف، فوجد فيه سيجارين من النوع الرخيص. وفي الجيوب الأخرى بعض الخيوط وبضعة أزرار ومنديل متسخ، والمسدس الكبير وحفنة من طلقات الخرطوش. ثم بحث في الجيوب الداخلية ووجد خطابين، قرر الانتباه إليهما فيما بعد. ثم وضع يده في الجيب الأيسر لسرواله وأخرجها خاوية. وبعد ذلك، ولينتهي من الأمر، مد يده إلى الجيب الخلفي وأخرج محفظة النقود. فوجدها محفظة نقود فعلا، وتصادف أنها تحتوي على بعض النقود الورقية، وما لبث أن داهم الحذر الاسكتلندي ذهن جيمي. حيث سمع كثيرا عن مجرمين ونشالين خفيفي اليد واستيلائهم على أملاك من يجاورهم من دون علمهم أو موافقتهم. وبمجرد أن علم بوجود ورقتين نقديتين أو ثلاث بفئات قد تكون معقولة، أغلق المحفظة ودسها ثانية في جيبه، ثم مال بمرفقيه على المنضدة وراح في تفكير عميق وسريع.
إنه ليس لصا. ولم يكن كذلك قط. لكنه في وسط مغامرة كبرى. تزداد أبعادها في كل لحظة. وقد تخيل أنه لو كانت أمه المسكينة، وهي في السماء قرب العرش، تنظر إليه وتصلي بكل طاقتها من أجل سلامته وفلاحه في مسعاه، ولو أن الله يتقبل منها ويستجيب لصلواتها بكل الحب والاهتمام، ما كان جيمي ليوفق أكثر من ذلك حتى الآن. لم يمض سوى نصف يوم، فقط ليلة واحدة، وبفضل ما حظي به من سيارة - أو سيارتين، على وجه الدقة - صار على بعد أكثر من مائتي ميل من حيث بدأ، وحيث إن ذينك المائتي ميل يؤديان إلى الشمال، والغرب؛ فلا بد أنه اقترب من البحر بدرجة كبيرة. لم يعلم جيمي السبب المحدد، الذي جعل كيانه بأكمله يصخب مطالبا بالبحر منذ اللحظة التي وقف فيها على قدميه وبدأ رحلته. ولم يضع وقتا في استجلاء نفسه أو محاولة الوقوف على أسباب رغبته في المياه، عوالم من المياه، مياه نقية، بلون أخضر مائل إلى الزرقة وأزرق سماوي وأزرق نيلي، مياه مالحة، وزبد، مساحات شاسعة من الزبد الأشبه بالثلج. أراد أن يرى أمواجا، أمواجا هائلة، تتلاطم على الشاطئ، وعندئذ استحوذ عليه ذلك الشعور الساذج، ربما لأنه لم يستحم هذا الصباح، بأنه يريد الخوض في تلك المياه. كما أراد الاستلقاء على الرمال والتشبع من الشمس والاستغراق في النوم، ثم العودة إلى مياه البحر مجددا. قد لا تكون المياه المغلية القادمة من ينبوع في باطن الأرض هي ما يلزم لعلاج حالته الخاصة. قد يكون الماء البارد، الماء المالح، ماء البحر هو الذي سيحدث الأثر المطلوب.
كان يفكر باستغراق شديد في احتمال أن البحر قد يفعل له شيئا لم تفعله الينابيع حتى إنه كاد ينسى روائح الطعام حوله. كان بإمكانه النسيان، ما دام لن يصبح مجبورا على الزهد. خلال دقيقة واحدة فقط، سيحصل على كوب قهوة، عليها طبقة كثيفة، من القشدة الغنية، وخبز محمص هش ولحم مقدد من النوع الجيد. فيما يخص النقود التي في جيبه؛ فهو لم يعلم على وجه التحديد ما الذي يدين به الرجل، الذي يرتدي هو سرواله الآن، للمجتمع عامة، لكنه أدرك من الواقعة التي رآه منخرطا فيها، ومن حديثه وألفته للموقف، أن ذلك الرجل قد يكون مدينا للمجتمع بدين كبير جدا. راود جيمي شعور بأنه، ما دام استحوذ على سلاحين وأثنى الهمجيين كليهما عما سمعهما يقولانه جهارا بلغة واضحة من نيتهما إلحاق الأذى برجل بدا واضحا أنه شديد الاحترام، واستحق عن جدارة، من خلال سنوات طويلة من الاقتصاد والعمل الشاق، الإجازة التي كان ينعم بها؛ إذن يحق له الحصول على محتويات جيوبهما. أما بالنسبة إلى الفتاة الصغيرة النشيطة وأمها الرصينة واللطيفة على حد سواء، فقد اجتاح كيان جيمي (لدى تذكر ما كان سيحدث لهما) غثيان مفاجئ، ودون أن يعبأ بمن قد يراه، أخرج المحفظة من جيبه الخلفي وفتحها على اتساعها وأفرغها، فوجد في أصابعه المذهولة تسعة وأربعين دولارا بالتمام والكمال، وبأوراق من فئة الدولار والخمسة دولارات والعشرة دولارات. كان هذه المرة مشدوها فعلا، ولم يكن سقف المطعم مشجعا مطلقا، فإن كان قد نظر لأعلى حقا، حتى ولو لا إراديا، إلا أنه نسي الإعراب عن امتنانه. في الحال اتخذ قرارا جريئا وملحا؛ أنه بعد أن يأكل الطعام الذي طلبه، سوف يذهب للاستحمام، وسوف يحصل على ملابس داخلية نظيفة وجديدة، وسيحصل على سروال ومعطف على مقاسه، ولا يملآنه نفورا، وسوف يحصل على قبعة يمكن أن يبدو فيها على الأقل جذابا بقدر الإمكان.
لم يعر الجانب الأخلاقي للمسألة اهتماما كبيرا. فقد أحبط الهجوم على المخيم، وهرب من رجلين بأسلحتهما. لقد كان مفيدا فائدة كبيرة لويليام برونسون وزوجته وابنته؛ فلا بد أن يرحبوا بحصوله على التسعة والأربعين دولارا كمكافأة له، وقد شعر من أعماق روحه والوجع الدائم الناجم عن الجرح في يسار صدره أن الله سيغفر له شراء ملابس جديدة ونظيفة. ما الذي كان قد قاله الطبيب؟ أن جسده قد أصبح أفضل بيئة ممكنة لنمو الجراثيم، أليس كذلك؟ ومن ثم فإن نظرة واحدة على ساقي السروال الذي يرتديه جعلته يشعر كأنه المصنع الأصلي الذي اخترعت فيه الجراثيم. لذا أخرج ذراعيه الطويلتين من كمي المعطف بعيدا بقدر ما استطاع، وأزاح تلابيب المعطف بقدر ما أمكن، وتجرع القهوة التي كانت ساخنة جدا حتى إنها كادت تلسعه، وأكل اللحم المقدد الذي كان هشا حقا والخبز المحمص الذي اكتسب لونا بنيا كما ينبغي. ودفع فاتورته، وعاد إلى الرصيف حاملا ثروة من العملات في حوزته، وبحث عن سيارة برونسون.
كانت واقفة حيث تركها، فمضى وسار إلى مكتب الفندق. لم ير أثرا لأي من أفراد عائلة برونسون، فذهب إلى الموظف وطلب الاطلاع على السجل. حين وجد ما كان يبحث عنه، طلب من الموظف أن يخبر أصدقاءه، إذا نزلوا قبل عودته، أنه قد ذهب للحلاقة والحصول على بعض الملابس الجديدة. انتابه على نحو ما شعور حاسم بالكبرياء نبع من حقيقة أنه ليس مضطرا إلى إخبار ويليام برونسون وزوجته وابنته أنه كان منهكا وحانقا، حطام إنسان لا يملك بنسا في جيبه يولي الفرار من حكومة لا علم له حتى بلوائحها، مع أمل ضعيف جدا في الفرج. لم يكن قد خطر له قط أن يفعل شيئا مثل الخروج عن رعاية الحكومة دون أدنى فكرة عن المكان الذي سيتجه إليه أو ما سيحدث له، حتى بين الاحتمالات الخيالية، أما الآن وقد أقدم على ذلك، فعليه الإقرار بأنه لا يعلم ما إن كان فارا من الجندية أم لا. لا يمكن قطعا أن يكون فارا من الجندية؛ لأن الحرب وضعت أوزارها منذ شهور طويلة عديدة. لا شك أنه قد خضع لإجراء ما غالبا ليظل مقيدا في السجلات وفي عهدة الحكومة. لم يكن الاحتمال معدوما أن يأتي اليوم الذي قد يحتاج فيه إلى المطالبة بالسجل الرسمي المتعلق بالأوسمة التي يحملها.
غادر الفندق بعد أن حصل على إرشادات من الموظف عن السبيل للوصول إلى أفضل متجر ملابس في البلدة، فابتاع لنفسه الملابس اللازمة لينعم بالنظافة والراحة. متوخيا الاقتصاد، اشترى ما شعر أنه يلزمه من بين أرخص الأشياء التي وجد أنها قد تفي باحتياجاته، ثم ذهب إلى الحلاق، وبعد قص شعره وحصوله على حلاقة منعشة، دفع نقودا مقابل الحصول على حمام، وتبع هذا بارتداء ملابسه الجديدة. حين ارتدى قبعته الجديدة قبالة المرآة في الحمام، تصور أنه ما دام النشاط يدب في أوصاله والطعام يملأ معدته فإنه قد لا يكون بالرجل قبيح المنظر. فهو طويل القامة، وعريض البنيان مثل أسلافه الاسكتلنديين، وذراعاه المشدودتان مستدقتا الطرف، وملامحه متناسقة، وعيناه الواسعتان ذات اللون الرمادي الممتزج بزرقة تبدوان رغم كل شيء عينين صريحتين، عينين طيبتين، عينين آسرتين.
ومن ثم عاد جيمي إلى الفندق حاملا صرة ملفوفة بعناية احتوت على معطف رجل آخر وسروال رجل آخر أيضا. انتوى أن يلقي بها على جانب الطريق في مكان ما أثناء رحلته، فقط تحسبا لاحتمال أن يكون هناك رجل في عوز شديد مثلما كان، فيجدها وتسد حاجته، كما قضيت حاجته.
حين سار ويليام برونسون إلى الاستقبال، نهض جيمي مبتسما، وقد استمد الثقة من سروال رمادي مهندم والمعطف الذي جاء على مقاسه بالضبط والقميص الذي كان نظيفا وجديدا، فمد يده، لكنه بدلا من التعرف عليه قوبل بنظرة باردة. كان عليه أن يخلع قبعته ويتكلم بلكنته الاسكتلندية حتى يعلم ويليام برونسون أنه المسافر الذي قابله في اليوم السابق، وعندئذ تلاشى من ذهنه تماما التساؤل الذي ظل يدور فيه إلى أن خلد للنوم عما إذا كان قد ترك سيارته في حوزة مجرم ثالث. فلم يكن هناك ولو شبح مجرم طوال عشرة أجيال من أسلاف الرجل الماثل أمامه. كان ويليام برونسون يستطيع أن يقسم على ذلك. وبينما وقف يصافح يد جيمي، راح ينظر إليه ضاحكا وقال: «مهلا، يا للعجب! لم أتعرف عليك، وأراهن أن زوجتي وسوزي أيضا لن تعرفاك، إن وقفت بعيدا عنك!»
ضحك جيمي بدوره. ثم قال: «لقد أقدمت على ذلك التغيير المفاجئ في العتمة ليلة أمس. إن ضوء القمر مخادع كبير. لم أرد سوى أن أخلع الزي الرسمي للعم سام (الجيش الأمريكي) سريعا، فانتهزت أول ما عرض لي، لكن حين استيقظت هذا الصباح وجدت ملابسي شديدة الاتساخ ومليئة بالجراثيم حتى إنها تكاد تسير وحدها، فقررت أن أرى كيف لي أن أغيرها سريعا.»
قال ويليام برونسون: «هلم للفطور!»
Unknown page