وقال شيخ الإسلام:
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن برحمتك
الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ﷺ تسليما.
أما بعد: فقد سألني بعض الإخوان أن أكتب له مقدمة تتضمن قواعد كلية، تعين على فهم القرآن ومعرفة تفسيره ومعانيه، والتمييز في منقول ذلك ومعقوله بين الحق وأنواع الأباطيل، والتنبيه على الدليل الفاصل بين الأقاويل؛ فإن الكتب المصنفة في التفسير مشحونة بالغَثِّ والسمين، والباطل الواضح والحق المبين.
والعلم أما نقل مصدق عن معصوم، وأما قول عليه دليل معلوم، وما سوى هذا فإما مزيف مردود، وأما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود.
وحاجة الأمة ماسة إلى فهم القرآن الذي هو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يَخْلَق عن كثرة الترديد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل،
1 / 7
ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم، ومن تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله.
قال تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾ [طه: ١٢٣ ١٢٦]، وقال تعالى: ﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَه سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: ١٥، ١٦]، وقال تعالى: ﴿الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ [إبراهيم: ١، ٢]، وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ﴾ [الشورى: ٥٢، ٥٣]
وقد كتبت هذه المقدمة مختصرة بحسب تيسير الله تعالى من إملاء الفؤاد، والله الهادي إلى سبيل الرشاد.
1 / 11
مقدمة في أصول التفسير
التأليف: أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل [في عناية الصحابة والتابعين بمعاني القرآن]
يجب أن يعلم أن النبي ﷺ بَيَّنَ لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه، فقوله تعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤] يتناول هذا وهذا، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي ﷺ عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا. ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة. وقال أنس: كان الرجل إذا قرا البقرة وأل عمران جَلَّ في أعيننا. وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين، قيل: ثماني سنين، ذكره مالك.
وذلك أن الله تعالى قال: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص: ٢٩]، وقال: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ [النساء: ٨٢،محمد: ٢٤]، وقال: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ﴾ [المؤمنون: ٦٨]، وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن، وكذلك قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: ٢] وعقل الكلام متضمن لفهمه.
1 / 9
ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك. وأيضا، فالعادة تمنع أن يقرآ قوم كتابا في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه، فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم، وقيام دينهم ودنياهم؟ ولهذا كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلا جدا، وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة، فهو قليل بالنسبة إلى من بعدهم، وكلما كان العصر أشرف كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر. ومن التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابة، كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها؛ ولهذا قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به؛ ولهذا يعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما من أهل العلم، وكذلك الإمام أحمد وغيره ممن صنف في التفسير يكرر الطرق عن مجاهد أكثر من غيره.
والمقصود أن التابعين تلقوا التفسير عن الصحابة، كما تلقوا عنهم
1 / 10
علم السنة، وإن كانوا قد يتكلمون في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال، كما يتكلمون في بعض السنن بالاستنباط والاستدلال.
فصل [في اختلاف السلف في التفسير اختلاف تنوع] الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وذلك صنفان: أحدهما: أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى بمنزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة كما قيل في اسم السيف: الصارم والمهند، وذلك مثل أسماء الله الحسنى، وأسماء رسوله ﷺ وأسماء القرآن، فإن أسماء الله كلها تدل على مسمى واحد، فليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى مضادا لدعائه باسم آخر، بل الأمر كما قال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى﴾ [الإسراء: ١١٠] . وكل اسم من أسمائه يدل على الذات المسماة، وعلى الصفة التي تضمنها الاسم، كالعليم يدل على الذات والعلم، والقدير يدل على الذات والقدرة، والرحيم يدل على الذات والرحمة. ومن أنكر دلالة أسمائه على صفاته ممن يدعي الظاهر، فقوله من جنس قول غلاة الباطنية القرامطة الذين يقولون: لا يقال: هو حي، ولا ليس بحي، بل ينفون عنه النقيضين؛ فإن أولئك القرامطة الباطنية لا ينكرون اسما هو علم محض كالمضمرات، وإنما ينكرون ما في أسمائه الحسنى من صفات الإثبات، فمن وافقهم على مقصودهم كان مع دعواه الغلو
فصل [في اختلاف السلف في التفسير اختلاف تنوع] الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وذلك صنفان: أحدهما: أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى بمنزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة كما قيل في اسم السيف: الصارم والمهند، وذلك مثل أسماء الله الحسنى، وأسماء رسوله ﷺ وأسماء القرآن، فإن أسماء الله كلها تدل على مسمى واحد، فليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى مضادا لدعائه باسم آخر، بل الأمر كما قال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى﴾ [الإسراء: ١١٠] . وكل اسم من أسمائه يدل على الذات المسماة، وعلى الصفة التي تضمنها الاسم، كالعليم يدل على الذات والعلم، والقدير يدل على الذات والقدرة، والرحيم يدل على الذات والرحمة. ومن أنكر دلالة أسمائه على صفاته ممن يدعي الظاهر، فقوله من جنس قول غلاة الباطنية القرامطة الذين يقولون: لا يقال: هو حي، ولا ليس بحي، بل ينفون عنه النقيضين؛ فإن أولئك القرامطة الباطنية لا ينكرون اسما هو علم محض كالمضمرات، وإنما ينكرون ما في أسمائه الحسنى من صفات الإثبات، فمن وافقهم على مقصودهم كان مع دعواه الغلو
1 / 11
في الظاهر موافقا لغلاة الباطنية في ذلك، وليس هذا موضع بسط ذلك.
وإنما المقصود أن كل اسم من أسمائه يدل على ذاته، وعلى ما في الاسم من صفاته، ويدل أيضا على الصفة التي في الاسم الآخر بطريق اللزوم، وكذلك أسماء النبي ﷺ، مثل محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب. وكذلك أسماء القرآن: مثل القرآن، والفرقان، والهدى، والشفاء، والبيان، والكتاب، وأمثال ذلك.
فإذا كان مقصود السائل تعيين المسمى عبرنا عنه بأي اسم كان إذا عرف مسمى هذا الاسم، وقد يكون الاسم علما وقد يكون صفة كمن يسأل عن قوله: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي﴾ [طه: ١٢٤] ما ذكره؟ فيقال له: هو القرآن مثلا، أو هو ما أنزله من الكتب. فإن الذكر مصدر، والمصدر تارة يضاف إلى الفاعل وتارة إلى المفعول. فإذا قيل ذكر الله بالمعني الثاني كان ما يذكر به مثل قول العبد: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وإذا قيل بالمعنى الأول كان ما يذكره هو وهو كلامه، وهذا هو المراد في قوله: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي﴾؛ لأنه قال قبل ذلك: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ [طه: ١٢٣] وهَداه هو ما أنزله من الذكر، وقال بعد ذلك: ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا﴾ [طه: ١٢٥، ١٢٦] .
والمقصود أن يعرف أن الذكر هو كلامه المنزل، أو هو ذكر العبد له،
1 / 12
فسواء قيل: ذكري كتابي أو كلامي أو هداي أو نحو ذلك، كان المسمى واحدًا.
وإن كان مقصود السائل معرفة ما في الاسم من الصفة المختصة به، فلابد من قدر زائد على تعيين المسمى، مثل أن يسأل عن القدوس السلام المؤمن، وقد علم أنه الله، لكن مراده ما معنى كونه قدوسا سلاما مؤمنا ونحو ذلك.
إذا عرف هذا، فالسلف كثيرا ما يعبرون عن المسمى بعبارة تدل على عينه، وإن كان فيها من الصفة ما ليس في الاسم الآخر، كمن يقول: أحمد هو الحاشر والماحي والعاقب. والقدوس هو الغفور، والرحيم، أي أن المسمى واحد، لا أن هذه الصفة هي هذه الصفة. ومعلوم أن هذا ليس اختلاف تضاد كما يظنه بعض الناس، مثال ذلك: تفسيرهم للصراط المستقيم:
فقال بعضهم: هو القرآن، أي أتباعه؛ لقول النبي ﷺ في حديث علي الذي رواه الترمذي، ورواه أبو نعيم من طرق متعددة: " هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم ". وقال بعضهم: هو الإسلام؛ لقوله ﷺ في حديث النواس ابن سمعان الذي رواه الترمذي وغيره: " ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سُورَان، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وداع يدعو من فوق الصراط، وداع يدعو على رأس الصراط "، قال: " فالصراط المستقيم هو الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، والداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن "،
1 / 13
فهذان القولان متفقان؛ لأن دين الإسلام هو إتباع القرآن، ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر، كما أن لفظ " صراط " يشعر بوصف ثالث، وكذلك قول من قال: هو السنة والجماعة. وقول من قال: هو طريق العبودية. وقول من قال: هو طاعة الله ورسوله ﷺ، وأمثال ذلك، فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها.
الصنف الثاني: أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل، وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه، مثل سائل أعجمي سأل عن مسمى [لفظ الخبز] فأرى رغيفًا، وقيل له: هذا، فالإشارة إلى نوع هذا لا إلى هذا الرغيف وحده مثال ذلك: ما نقل في قوله: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ [فاطر: ٣٢]
فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات، والمنتهك للمحرمات، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات، والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات، فالمقتصدون هم أصحاب اليمين ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [الواقعة: ١٠، ١١]
ثم إن كلا منهم يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات، كقول القائل: السابق الذي يصلي في أول الوقت، والمقتصد الذي يصلي في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار، ويقول الآخر: السابق والمقتصد والظالم قد ذكرهم في آخر سورة البقرة، فإنه ذكر
1 / 14
المحسن بالصدقة، والظالم بأكل الربا، والعادل بالبيع. والناس في الأموال أما محسن، وأما عادل، وإما ظالم، فالسابق المحسن بأداء المستحبات مع الواجبات. والظالم آكل الربا أو مانع الزكاة. والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة، ولا يأكل الربا، وأمثال هذه الأقاويل.
فكل قول فيه ذكر نوع داخل في الآية ذكر لتعريف المستمع بتناول الآية له وتنبيهه به على نظيره، فإن التعريف بالمثال قد يسهل أكثر من التعريف بالحد المطلق، والعقل السليم يتفطن للنوع، كما يتفطن إذا أشير له إلى رغيف، فقيل له: هذا هو الخبز.
وقد يجيء كثيرا من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا، لاسيما إن كان المذكور شخصا؛ كأسباب النزول المذكورة في التفسير، كقولهم: إن آية الظهار نزلت في امرأة اوس بن الصامت، وإن آية اللعان نزلت في عويمر العَجْلاني أو هلال بن أمية، وإن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله، وإن قوله: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ﴾ [المائدة: ٤٩] نزلت في بني قُرَيْظَة والنَّضِير، وأن قوله: ﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَه﴾ [الأنفال: ١٦] نزلت في بَدْر، وأن قوله: ﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ [المائدة: ١٠٦] نزلت في قضية تَمِيم الداري وَعديّ بن بَدَّاء، وقول أبي أيوب إن قوله: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: ١٩٥]: نزلت فينا معشر الأنصار، الحديث. ونظائر هذا كثير مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة، أو في قوم من أهل الكتاب اليهود والنصارى، أو في قوم من المؤمنين.
فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية مختص
1 / 15
بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق، والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا؟ فلم يقل أحد من علماء المسلمين: إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص فيعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ.
والآية التي لها سبب معين، إن كانت أمرا ونهيا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته، وإن كانت خبرًا بمدح أو ذم فهي متناولة لذلك الشخص وغيره ممن كان بمنزلته أيضًا.
ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية؛ فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب؛ ولهذا كان أصح قولي الفقهاء: أنه إذا لم يعرف ما نواه الحالف، رجع إلى سبب يمينه وما هيجها وأثارها.
وقولهم: نزلت هذه الآية في كذا، يراد به تارة أنه سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب، كما تقول: عني بهذه الآية كذا.
وقد تنازع العلماء في قول الصاحب [أى الصحابى]: نزلت هذه الآية في كذا، هل يجري مجرى المسند كما يذكر السبب الذي أنزلت لأجله، أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند؟
فالبخاري يدخله في المسند وغيره لا يدخله في المسند.
وأكثر المساند على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره، بخلاف ما إذا ذكر سببا نزلت عقبة، فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند.
وإذا عرف هذا، فقول أحدهم: نزلت في كذا، لا ينافي قول الآخر: نزلت في كذا، إذا كان اللفظ يتناولهما، كما ذكرناه في التفسير بالمثال، وإذا ذكر أحدهم لها سببا نزلت لأجله وذكر الآخر
1 / 16
سببا، فقد يمكن صدقهما بأن تكون نزلت عقب تلك الأسباب، أو تكون نزلت مرتين، مرة لهذا السبب ومرة لهذا السبب.
وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير، تارة لتنوع الأسماء والصفات، وتارة لذكر بعض أنواع المسمى وأقسامه، كالتمثيلات هما الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف.
ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملا للأمرين؛ إما لكونه مشتركًا في اللفظ كلفظ ﴿قَسْوَرَةٍ﴾ الذي يراد به الرامي، ويراد به الأسد، ولفظ ﴿عَسْعَسَ﴾ الذي يراد به إقبال الليل وإدباره، وإما لكونه متواطئا في الأصل، لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشيئين، كالضمائر في قوله: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ [النجم: ٨، ٩]، وكلفظ ﴿وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرٌِ﴾ [الفجر: ١-٣] وما أشبه ذلك.
فمثل هذا قد يجوز أن يراد به كل المعاني التي قالها السلف، ووقد لا يجوز ذلك، فالأول إما لكون الآية نزلت مرتين فأريد بها هذا تارة وهذا تارة، وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه؛ إذ قد جوز ذلك أكثر الفقهاء المالكية، والشافعية، والحنبلية وكثير من أهل الكلام، وإما لكون اللفظ متواطئا فيكون عاما، إذا لم يكن لتخصيصه موجب، فهذا النوع إذا صح فيه القولان كان من الصنف الثاني.
ومن الأقوال الموجودة عنهم ويجعلها بعض الناس اختلافا أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة لا مترادفة؛ فإن الترادف في اللغة قليل، وأما في ألفاظ القرآن فإما نادر وإما معدوم، وقَلَّ أن يعبر عن لفظ واحد بلفظ واحد يؤدي جميع معناه، بل يكون فيه تقريب لمعناه، وهذا من أسباب إعجاز القرآن. فإذا قال القائل: ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء
1 / 17
مَوْرًا﴾ [الطور: ٩]: إن المور هو الحركة كان تقريبا؛ إذ المور حركة خفيفة سريعة.
وكذلك إذا قال: الوحي: الإعلام، أو قيل: ﴿أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ [النساء: ١٦٣]: أنزلنا إليك، أو قيل: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الإسراء: ٤] أي: أعلمنا، وأمثال ذلك، فهذا كله تقريب لا تحقيق؛ فإن الوحي هو إعلام سريع خفي، والقضاء إليهم أخص من الإعلام؛ فإن فيه إنزالا إليهم وإيحاء إليهم.
والعرب تُضَمِّنُ الفعل معنى الفعل وتعديه تعديته، ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض، كما يقولون في قوله: ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ﴾ [ص: ٢٤] أي: مع نعاجه و﴿مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾ [الصف: ١٤] أي: مع الله ونحو ذلك. والتحقيق ما قاله نحاة البصرة من التضمين، فسؤال النعجة يتضمن جمعها وضمها إلى نعاجه، وكذلك قوله: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ [الإسراء: ٧٣] ضمن معنى يزيغونك ويصدونك، وكذلك قوله: ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ [الأنبياء: ٧٧]، ضمن معنى نجيناه وخلصناه، وكذلك قوله: ﴿يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ [الإنسان: ٦] ضمن يروى بها، ونظائره كثيرة.
ومن قال: ﴿لاريب﴾: لا شك، فهذا تقريب، وإلا فالريب فيه اضطراب وحركة، كما قال: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "، وفي الحديث أنه مر بظبي حاقف [أي: نائم قد انحنى في نومه] فقال: " لا يريبه أحد "، فكما أن اليقين ضمن السكون والطمأنينة فالريب ضده ضمن الاضطراب والحركة. ولفظ [الشك] وإن قيل: إنه يستلزم هذا المعنى، لكن لفظه لا يدل عليه.
وكذلك إذا قيل: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾: هذا القرآن، فهذا
1 / 18
تقريب؛ لأن المشار أليه وإن كان واحدا، فالإشارة بجهة الحضور غير الإشارة بجهة البعد والغيبة، ولفظ [الكتاب] يتضمن من كونه مكتوبا مضمونا ما لا يتضمنه لفظ القرآن من كونه مقروءا مظهرا باديا. فهذه الفروق موجودة في القرآن. فإذا قال أحدهم: ﴿أَن تُبْسَلَ﴾: أي تحبس، وقال الآخر: ترتهن، ونحو ذلك، لم يكن من اختلاف التضاد، وإن كان المحبوس قد يكون مرتهنا وقد لا يكون، إذ هذا تقريب للمعنى كما تقدم، وجمع عبارات السلف في مثل هذا نافع جدا، فإن مجموع عباراتهم أدل على المقصود من عبارة أو عبارتين، ومع هذا فلابد من اختلاف محقق بينهم، كما يوجد مثل ذلك في الأحكام.
ونحن نعلم أن عامة ما يضطر إليه عموم الناس من الاختلاف معلوم بل متواتر عند العامة أو الخاصة، كما في عدد الصلوات ومقادير ركوعها ومواقيتها، وفرائض الزكاة ونصبها، وتعيين شهر رمضان، والطواف والوقوف، ورمي الجمار، والمواقيت وغير ذلك.
ثم اختلاف الصحابة في الجد والإخوة وفي المشركة ونحو ذلك، لا يوجب ريبًا في جمهور مسائل الفرائض، بل ما يحتاج إليه عامة الناس هو عمود النسب من الآباء والأبناء، والكلالة من الأخوة والأخوات، ومن نسائهم كالأزواج؛ فإن الله أنزل في الفرائض ثلاث آيات مفصلة، ذكر في الأولى الأصول والفروع، وذكر في الثانية الحاشية التي ترث بالفرض كالزوجين وولد الأم، وفي الثالثة الحاشية الوارثة بالتعصيب
1 / 19
وهم الأخوة لأبوين أو لأب، واجتماع الجد والأخوة نادر؛ ولهذا لم يقع في الإسلام إلا بعد موت النبي ﷺ؛ والاختلاف قد يكون لخفاء الدليل أو لذهول عنه، وقد يكون لعدم سماعه، وقد يكون للغلط في فهم النص، وقد يكون لاعتقاد معارض راجح، فالمقصود هنا التعريف بجمل الأمر دون تفاصيله.
فصل [في نوعي الاختلاف في التفسير] النوع الأول: الخلاف الواقع في التفسير من جهة النقل الاختلاف في التفسير على نوعين: منه ما مستنده النقل فقط، ومنه ما يعلم بغير ذلك؛ إذ العلم إما نقل مصدق وإما استدلال محقق، والمنقول إما عن المعصوم وإما عن غير المعصوم، والمقصود بأن جنس المنقول سواء كان عن المعصوم أو غير المعصوم، وهذا هو النوع الأول منه ما يمكن معرفة الصحيح منه والضعيف، ومنه ما لا يمكن معرفة ذلك فيه. وهذا القسم الثاني من المنقول؛ وهو ما لاطريق لنا إلى الجزم بالصدق منه عامته مما لا فائدة فيه، فالكلام فيه من فضول الكلام. وأما ما يحتاج المسلمون إلى معرفته، فإن الله نصب على الحق فيه دليلا، فمثال ما لا يفيد ولا دليل على الصحيح منه: اختلافهم في لون كلب أصحاب الكهف، وفي البعض الذي ضرب به موسى من البقرة،
فصل [في نوعي الاختلاف في التفسير] النوع الأول: الخلاف الواقع في التفسير من جهة النقل الاختلاف في التفسير على نوعين: منه ما مستنده النقل فقط، ومنه ما يعلم بغير ذلك؛ إذ العلم إما نقل مصدق وإما استدلال محقق، والمنقول إما عن المعصوم وإما عن غير المعصوم، والمقصود بأن جنس المنقول سواء كان عن المعصوم أو غير المعصوم، وهذا هو النوع الأول منه ما يمكن معرفة الصحيح منه والضعيف، ومنه ما لا يمكن معرفة ذلك فيه. وهذا القسم الثاني من المنقول؛ وهو ما لاطريق لنا إلى الجزم بالصدق منه عامته مما لا فائدة فيه، فالكلام فيه من فضول الكلام. وأما ما يحتاج المسلمون إلى معرفته، فإن الله نصب على الحق فيه دليلا، فمثال ما لا يفيد ولا دليل على الصحيح منه: اختلافهم في لون كلب أصحاب الكهف، وفي البعض الذي ضرب به موسى من البقرة،
1 / 20
وفي مقدار سفينة نوح وما كان خشبها، وفي اسم الغلام الذي قتله الخضر، ونحو ذلك. فهذه الأمور طريق العلم بها النقل، فما كان من هذا منقولًا نقلا صحيحا عن النبي ﷺ كاسم صاحب موسى أنه الخضر فهذا معلوم، وما لم يكن كذلك بل كان مما يؤخذ عن أهل الكتاب كالمنقول عن كعب ووهب ومحمد بن إسحاق وغيرهم ممن يأخذ عن أهل الكتاب فهذا لا يجوز تصديقه ولا تكذيبه إلا بحجة، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه ".
وكذلك ما نقل عن بعض التابعين، وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب، فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض، وما نقل في ذلك عن بعض الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه
1 / 21
أسكن مما نقل عن بعض التابعين؛ لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي ﷺ أو من بعض من سمعه منه أقوى؛ ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين، ومع جزم الصاحب فيما يقوله، فكيف يقال: إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم؟
والمقصود أن مثل هذا الاختلاف الذي لا يعلم صحيحه، ولا تفيد حكاية الأقوال فيه، هو كالمعرفة لما يروي من الحديث الذي لا دليل على صحته وأمثال ذلك.
وأما القسم الأول، الذي يمكن معرفة الصحيح منه، فهذا موجود فيما يحتاج إليه ولله الحمد، فكثيرا ما يوجد في التفسير والحديث والمغازي أمور منقولة عن نبينا ﷺ وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه والنقل الصحيح يدفع ذلك، بل هذا موجود فيما مستنده النقل، وفيما قد يعرف بأمور أخرى غير النقل.
فالمقصود أن المنقولات التي يحتاج إليها في الدين قد نصب الله الأدلة على بيان ما فيها من صحيح وغيره، ومعلوم أن المنقول في التفسير أكثره كالمنقول في المغازي والملاحم؛ ولهذا قال الإمام أحمد: ثلاثة أمور ليس لها إسناد: التفسير، والملاحم، والمغازي. ويروي: ليس لها أصل، أي إسناد؛ لأن الغالب عليها المراسيل، مثل ما يذكره عروة بن الزبير، والشعبي، والزهري، وموسى بن عقبة، وابن إسحاق، ومن بعدهم،
1 / 22
كيحيى بن سعيد الأموي، والوليد بن مسلم، والواقدي، ونحوهم في المغازي؛ فإن أعلم الناس بالمغازي أهل المدينة، ثم أهل الشام، ثم أهل العراق، فأهل المدينة أعلم بها لأنها كانت عندهم، وأهل الشام كانوا أهل غزو وجهاد، فكان لهم من العلم بالجهاد والسير ما ليس لغيرهم؛ ولهذا عظم الناس كتاب أبي إسحاق الفزاري الذي صنفه في ذلك، وجعلوا الأوزاعي أعلم بهذا الباب من غيره من علماء الأمصار.
1 / 23
وأما التفسير فإن أعلم الناس به أهل مكة؛ لأنهم أصحاب ابن عباس، كمجاهد وعطاء ابن أبي رباح، وعكرمة مولى ابن عباس وغيرهم من أصحاب أبن عباس، كطاوس، وأبي الشعثاء، وسعيد بن جبير وأمثالهم، وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود، ومن ذلك ما تميزوا به على غيرهم، وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم الذي أخذ عنه مالك التفسير، وأخذه عنه أيضا ابنه عبد
1 / 24
الرحمن، وأخذه عن عبد الرحمن عبد الله بن وهب.
والمراسيل إذا تعددت طرقها وخلت عن المواطأة قصدًا أو الاتفاق بغير قصد كانت صحيحة قطعا، فان النقل إما أن يكون صدقا مطابقا للخبر، وإما أن يكون كذبا تعمد صاحبه الكذب، أو أخطأ فيه، فمتى سلم من الكذب العمد والخطأ كان صدقا بلا ريب.
فإذا كان الحديث جاء من جهتين أو جهات، وقد علم أن المخبرين لم يتواطئا على اختلاقه، وعلم أن مثل ذلك لا تقع الموافقة فيه اتفاقًا بلا قصد علم أنه صحيح، مثل شخص يحدث عن واقعة جرت، ويذكر تفاصيل ما فيها من الأقوال والأفعال، ويأتي شخص آخر قد علم أنه لم يواطئ الأول، فيذكر مثل ما ذكره الأول من تفاصيل الأقوال والأفعال، فيعلم قطعا أن تلك الواقعة حق في الجملة؛ فإنه لو كان كل منهما كذبها عمدا أو خطأ، لم يتفق في العادة أن يأتي كل منهما بتلك التفاصيل التي تمنع العادة اتفاق الاثنين عليها بلا مواطأة من أحدهما لصاحبه، فإن الرجل قد يتفق أن ينظم بيتا وينظم الآخر مثله، أو يكذب كذبة ويكذب الآخر مثلها، أما إذا أنشأ قصيدة طويلة ذات فنون على قافية ورَوِيٍّ فلم تجر العادة بأن غيره ينشئ مثلها لفظا ومعني مع الطول المفرط، بل يعلم بالعادة أنه أخذها منه، وكذلك إذا حدث حديثا طويلا فيه فنون، وحدث آخر بمثله، فإنه إما أن يكون واطأه عليه أو أخذه منه، أو يكون الحديث صدقا، وبهذه الطريق يعلم صدق عامة ما تتعدد جهاته المختلفة على هذا الوجه من المنقولات، وإن لم يكن أحدها كافيا إما لإرساله وإما لضعف ناقله، لكن مثل هذا لا تضبط به الألفاظ والدقائق التي لا تعلم بهذه الطريق فلا يحتاج
1 / 25
ذلك إلى طريق يثبت بها مثل تلك الألفاظ والدقائق؛ ولهذا ثبتت بالتواتر غزوة بَدْر وأنها قبل أُحُد، بل يعلم قطعا أن حمزة وعليًا وعبيدة برزوا إلى عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ والوليد، وأن عليا قتل الوليد، وأن حمزة قتل قرنه، ثم يشك في قرنه هل هو عتبة أو شيبة.
وهذا الأصل ينبغي أن يعرف؛ فإنه أصل نافع في الجزم بكثير من المنقولات في الحديث والتفسير والمغازي، وما ينقل من أقوال الناس وأفعالهم وغير ذلك.
ولهذا إذا روى الحديث الذي يتأتى فيه ذلك عن النبي ﷺ من وجهين، مع العلم بأن أحدهما لم يأخذه عن الآخر، جزم بأنه حق، لا سيما إذا علم أن نَقَلَتَه ليسوا ممن يتعمد الكذب، وإنما يخاف على أحدهم النسيان والغلط؛ فإن من عرف الصحابة كابن مسعود وأبي بن كعب، وابن عمر، وجابر، وأبي سعيد، وأبي هريرة وغيرهم علم يقينا أن الواحد من هؤلاء لم يكن ممن يتعمد الكذب على رسول الله ﷺ، فضلا عمن هو فوقهم، كما يعلم الرجل من حال من جربه وخبره خبره باطنة طويلة أنه ليس ممن يسرق أموال الناس، ويقطع الطريق، ويشهد بالزور ونحو ذلك.
وكذلك التابعون بالمدينة ومكة، والشام والبصرة، فإن من عرف مثل أبي صالح السمان، والأعرج، وسليمان بن يسار، وزيد بن أسلم وأمثالهم، علم قطعا أنهم لم يكونوا ممن يتعمد الكذب في الحديث،
1 / 26