Munadulujiyya
المونادولوجيا والمبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي
Genres
وهذه الفكرة شأنها شأن أفكار كثيرة غيرها توضح أن ليبنتز هو ابن عصره المخلص، الذي لم يستطع أن يتحرر من التصور العلي الذي قيدته الآلية في أغلالها الثقيلة.
ولعل لليبنتز بعض العذر في هذا، فقد اهتم بالتفسير الآلي الذي كان من أهم الكشوف العلمية في عصره، وإن لم يسلم به مع ذلك تسليما أعمى، فهو يقبل فكرة الآلية من ناحية، ولا يريد من ناحية أخرى أن يفرط في فكرة الغائية. ولهذا نجده يحاول التوفيق بينهما، كما حاول التوفيق بين كثير من الأفكار والآراء المتعارضة. إن كلا الرأيين يفسر أحداث العالم من وجهة نظر مختلفة ، فهذه الأحداث من وجهة النظر الغائية تخدم غرضا معينا، وهي تتم من وجهة النظر الآلية؛ لأن الأجسام المادية التي تقوم عليها تحتك ببعضها على أساس القوانين الآلية التي لا تتغير، وهو يحاول أن يوفق بين وجهتي النظر كما قلنا بغير أن يحدد لكل منهما مجالا يختص به ولا يتعداه، فيسلم بالفكرة الآلية التي تذهب إلى أن كل العمليات الفيزيائية بما في ذلك العمليات البيولوجية، يمكن تفسيرها تفسيرا آليا، ولكنه يحد من هذه الفكرة فيبين أن جميع الأحداث الفيزيائية يمكن تفسيرها كذلك تفسيرا غائيا.
وهو يوضح هذا عن طريق التمييز بين «مملكتين» مملكة الجواهر المركبة أي الأجسام، ومملكة الجواهر البسيطة أي المونادات. والعلية الآلية تحكم مملكة الأجسام، أما مملكة المونادات فتحكمها الغائية، وهاتان المملكتان ليستا مستقلتين عن بعضهما البعض، ولا توجدان جنبا إلى جنب، بل يكونان وحدة واحدة، وإحداهما هي الصورة التي تظهر بها الأخرى. وهكذا فإن فكرة اتساق العالم التي تحدثنا عنها في سياق الكلام عن «الاتساق المقدر» لا تتأثر عندما نتحدث عن عالمين أو مملكتين للعلية والغائية، يعبر عن هذا قوله: «ومملكتا العلل الفاعلة والغائية متجانستان» (المونادولوجيا 79).
هكذا توفق نظرية المونادات بين العلية والغائية. وهناك سبب فلسفي آخر جعله يتمسك بفكرة الغائية، وهو تأكيد أن قوانين الآلية تقوم في الحقيقة على قوانين الغائية وتعتمد عليها. وتفسير هذا أن القوانين الآلية بطبيعتها قوانين عرضية حادثة؛ أي يمكن أن تكون غير ما هي عليه في الواقع، إذ يمكن من الناحية المنطقية البحتة أن نتصور وجود عوالم أخرى تحكمها قوانين طبيعية أخرى مختلفة عن القوانين التي تحكم عالمنا. أما أن هناك قوانين معينة تحكم عالمنا، فلا يمكن أن نقره إلا إذا سلمنا بحرية المبدأ الذي يقوم عليه العالم؛ أي إلا إذا سلمنا بحرية الله التي تتجه إلى هدف أو غاية، شأنها في هذا شأن كل حرية أخرى.
ومن هذا كله نرى أن القوانين الآلية للحركة تشير إلى أساس غائي تستند إليه، وأن فكرة الغائية فكرة أساسية في فلسفة ليبنتز الطبيعية وبغيرها لا يمكن تصور هذه الفلسفة. (ب) الإنسان مونادة عاقلة
كل ما قيل عن المونادة بوجه عام يمكن أن يقال أيضا عن العقل الإنساني، فهو بسيط لا يقبل القسمة، وهو غير مادي، لا يتكون ولا يفسد بالموت، إنه مبدأ النشاط التلقائي، مرآة العالم كله. والذي يميز مونادة العقل الإنساني عن سائر المونادات هو طبيعة إدراكاتها، وهناك جزء من هذه الإدراكات يدخل في شعورنا، ويطلق ليبنتز على هذا الشعور أو هذه المعرفة التي تحصل لنا من إدراكاتنا اسم «الوعي»
Apperception
أضف إلى هذا أن إدراكاتنا الواعية تختلف في درجة عمقها ووضوحها وتميزها عن الإدراكات التي تتم للنفس الحيوانية، والعقل الإنساني مونادة عليا تتحكم في المونادات السفلى التي تكون الجسم البشري، شأنها في هذا شأن النفس في الحيوان، ومبدأ الحياة في النباتات، ومبادئ الحياة التي تسيطر على الأجزاء العضوية المختلفة في الكائنات الحية. ويفترض ليبنتز في كل كائن حي عددا لا نهاية له من مبادئ الحياة المرتبة ترتيبا متسلسلا؛ أي من مبادئ تتحكم في مبادئ أخرى أدنى منها كما تحكمها في نفس الوقت مبادئ فوقها.
العقل إذن هو المبدأ الأعلى لحياة الإنسان، وكثيرا ما قارن الباحثون بين ليبنتز وأفلاطون حول هذه النقطة التي تتصل بالنفس العاقلة، ولكنهم نسوا في أغلب الأحيان أن فلسفة ليبنتز عن الإنسان فلسفة غير أفلاطونية بالمرة. فالمعروف أن أفلاطون يعد النفس مستقلة عن البدن الذي حلت فيه، وهي تقضي فيه زمنا ينتهي بانتهاء الأجل، فتتحرر منه وتنفصل عنه. فالبدن هو سجن النفس، أو هو قبرها على حد تعبيره المشهور في محاورة فايدون (سوما سيما)، ولكن ليبنتز ينظر للعلاقة بين النفس والجسم نظرة مختلفة كل الاختلاف، فوجود العقل الإنساني في رأيه يعتمد بالضرورة على وجود الجسد، وهو إن وجد فلا بد أن يكون مونادة رئيسية متحكمة في مجموعة من المونادات الدنيا، أعني في جسد عضوي، ويستحيل عليه أن يكون غير ذلك. ولهذا نجده يصف رأي أفلاطون في وجود منفصل للنفوس عن الأجساد بأنه «دعوى مدرسية» (المونادولوجيا 14)، وواضح أن نظرة ليبنتز هذه إلى العلاقة بين النفس والجسد - وهي تختلف كما رأينا كل الاختلاف عن نظرة أفلاطون - هي النتيجة الضرورية المترتبة على مذهبه الميتافيزيقي. فإذا كانت المادة عند أفلاطون شيئا غريبا على العقل، بل شيئا معاديا له، فإن المادة عند ليبنتز هي المظهر الذي تتجلى فيه المونادات اللامادية. ومعنى هذا أن المادة متعلقة بالعقل تعلقا أساسيا، بل إنها لتوشك أن تكون ذات طبيعة عقلية، ومعناه أيضا أن ليبنتز يشترك مع غيره من الثائرين على النظرة اليونانية التي تنتقص من شأن المادة، وتقلل من قيمة الأشياء المادية. صحيح أن الصراع بين أنصار المادة وأنصار الروح لم ينته بعد، وأن الحرب بينهما لم تحسم حتى اليوم، ولا نظن أنها ستحسم بشكل نهائي؛ إذ يبدو أنه ليس من السهل أن نعطي العالم المادي المحسوس حقه بغير أن نبالغ بغير حق في شأن الجانب الكمي من الواقع على حساب الجانب الكيفي. وهذا هو الذي حاوله ليبنتز فترك أثره على فلسفته الإنسانية. لقد فسر المادة من خلال المبادئ اللامادية الكامنة فيها، وأتاح له هذا التفسير أن يصور العلاقة بين النفس والجسم، أو بين العقل والمادة في صورة الحاكم والمحكوم لا في صورة السجان والمسجون!
كلنا يعرف حكاية البراهين التي ساقها أفلاطون لإثبات خلود النفس. لقد أجهد نفسه في صياغتها، ووفق في بعضها، وخانه التوفيق في بعضها الآخر، ولكنها جميعا لم تسلم من النقد. أما ليبنتز فهو يرى أن الخلود لا يحتاج إلى براهين معقدة ولا بسيطة، إنه مترتب على مفهوم المونادة. فالمونادات كما علمنا لا تقبل القسمة، وهي لهذا خالدة، ولا شك أن هذا يسري على مونادة العقل. وقد يسأل سائل: كيف يوفق ليبنتز بين مبدأ خلود العقل (أو الروح) ومبدأ الارتباط الضروري الدائم بين العقل والجسد؟
Unknown page