بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثامنة:
ألا لله الحمد كل الحمد، وعلى النبي الكريم وسائر الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة والتسليم. وبعد: فقد رأى النور كتابي هذا منذ ربع قرن، حين كانت المصادر الصرفية المحققة نادرة، فلقي الترحاب والاهتمام والتقدير في الأوساط العلمية، لما يمتاز به من أسلوب مشرق وعرض يسير ونفَس أندلسي لطيف، خلافًا لنظائره التي هي متون مكثفة معقدة، أو شروح على المتون تداخلت فيها الأحكام وتكررت بالتعبير الصلب العنيد.
وتوالت الطبعات من هذا الكتاب، بعون الله تعالى، منسوخة مصورة دون أن يدخلها تعديل جوهري، وأنا أرجع إليها بالمطالعة والمتابعة، أرصد ما فيها من حاجة إلى الإصدار الجديد المتقن القويم، وأجمع الملاحظات والمعلومات اللازمة لذلك. وكان في نشر المصادر الصرفية المتوالية مورد غني، أمدني بكثير من التوجيهات والأضواء الميسرة لما أتطلع إليه. أضف إلى هذا متابعتي دراسة هذا العلم وتدريسه نظريًّا وعمليًّا في الجامعات العربية وغيرها، مما يهيئ لي منافذ للوضوح والدقة والاستيعاب.
ثم جاءت البادرة الطيبة من الزملاء الكرام، المشرفين على "دار مكتبة لبنان" بالرغبة في إخراج الكتاب إخراجه لائقة به في الشكل والمضمون والتدقيق، ليصار إلى إعادة رصف حروفه وتغميره بالجودة والأناقة والغنى العلمي السديد، فكانت فرصة سائغة، يسرت لي أن أجمع شتات ما تناثر لدي من الآمال والرغبات والمراجعات، وأنصرف إلى الإخراجة القديمة المكررة، بالإغناء والتصويب والتسديد.
وأول ما شغلت به هو النصوص الملحَقة بنسخة "فيض الله"، من زيادات ابن عصفور، فقد كان صنف "الممتع" للأمير عبد الله بن عبد العزيز، في إشبيلية بين عامي ٦٢٥ و٦٢٩، في صورة مختصرة بدائية، ثم تابع إغناءه بالمواد العلمية سنة بعد سنة، يُلحقها بحواشي نسخته بخطه، حتى وافته المنية سنة ٦٩٩. وفي خلال ذلك كانت النسخ تتولد من الكتاب، وكل منها يحمل الزيادات التي سجلت آنذاك. ولذا رأينا الخلاف الكبير بين النسخ التي وصلت إلينا نماذج
1 / 5
منها أو من نصوصها، في الزيادة والنقص والتعديل والتصويب، فكان منها ما يحمل صور تطور الكتاب بين يدي مؤلفه وثقافته وعلمه.
والواقع أن أبا حيان النحوي اطلع على الصورة الأخيرة من نسخة المؤلف نفسه، وعبر عنها بالنسخة الجديدة، وأطلق عليها اسم"الممتع الكبير". ذلك لأن ابن عصفور كان قد ألحق بها عشرات وعشرات، من الأحكام والضوابط والأمثلة والتفسير والحجاج والاستدلال، وبعض الأبواب الكاملة مما يحتاج إليه الكتاب، وأجرى تعديلات في كثير من التعبير والاقتباس والإحالات، وصوب بعض الأحكام والقيود والشواهد والأمثلة، وضرب على عدد وافر من النصوص لأنها لا تفي بالمراد. وقد وقف أبو حيان على هذا كله في "الممتع الكبير"، ورأى فيه زادًا غنيًّا تفتقر إليه نسخته التي يمتلكها ويرعاها بالتسديد والعناية، فنقل تلك الزيادات والتعديلات إلى حواشي نسخته، حتى صارت نموذجًا وافيًا بالإخراجة الأخيرة للكتاب، كما أرادها ابن عصفور.
ولما حققت الكتاب في طبعاته الماضية وقفت على تلك الحواشي الغنية، وضقت بما فيها من خروم وغيمومة وتداخل، فاستقيت ما تيسر لي منها وألحقته بالنص، وأشرت إلى الباقي في التعليقات، على أمل أن أجد نسخة كاملة تحل ما في الحواشي من النقائص والصعوبات، ولكن الظروف لم تسعفني بذلك، فرجعت إلى تلك النصوص بالتتبع والتدقيق والتحليل والتركيب، مستأنسًا بالمصادر التراثية المنشورة مؤخرًا، حتى انقادت لي الجمهرة الغفيرة من الحواشي هذه، فأثبتها في مواضعها من النص، وجعلت ما تعذرت قراءته بين معقوفين للدلالة على اجتهادي، أو في عبارات مقتضبة في التعليقات. وبهذا أكون -والحمد لله- قد استوفيت الإخراجة النهائية لكتاب ابن عصفور، وأصبح النص المنشور قبل في غضون ربع قرن من الرعاية والتوجيه والتنمية قد شب عن الطوق، بعد أن كان وليدًا غرًّا، وحق لي أن أجعل اسمه في هذه الطبعة "الممتع الكبير" كما ذكر أبو حيان.
ثم رجعت إلى النص مرارًا بالقراءات المختلفة، لأتلمس مواطن القصور في الطبعات الماضية، وملامح الضعف في مظاهر التحقيق والإخراج والتيسير، فتجمع لدي ألوان غفيرة من ذلك، تقتضي التبصر والتدقيق لإجراء التعديلات اللازمة. وكان عن ذلك أن أصبح للنص توزيع جديد في بعض المواطن، يناسب الملحقات وما تخلل السياق من لفظ، يملأ صحفة أو فقرات أو أسطرًا أو عبارات أو كلمات.
ورصدت ما كان من تطبيعات وخلل في الإخراج، فقومت سبيله وخلصته من شوائبه، فإذا بي أعيد ضبط الكلمات في النثر والشعر بما يناسب الواقع الثقافي الآن، فتُثبَّت الحركات
1 / 6
اللازمة، ويُستغنى عن الفائض الذي يعرقل عمليات القراءة والإدراك والاستفادة من المضمون. وتبع ذلك اهتمام بعلامات الترقيم؛ لأنها في الحقيقة رموز لجمل تعبيرية، توجه القارئ وتساعده على الفهم الدقيق للدلالات والمقاصد، وكان من هذه العلامات تلك الآلاف من الأقواس المتلاحقة، أسقطتها من المتن مستغنيًا عنها بالإشارات البسيطة، لأزيل عن وجه الكتاب ما عقد صورته وبطأ حركة المطالعة والاستفادة، فلم أترك منها إلا النزر اليسير، مما هو ضروري لا يكون عنه عرقة ونتائج سلبية. أضف إلى هذا كله تصويب ما ند عن النساخ، من هنات وأوهام تقتضي التوجيه والتعديل والتقويم.
هذا في النص المحقق. أما متممات التحقيق فقد رجعت إليها بالإغناء والتنمية أيضًا، فيما كان من تعليقات وتوجيهات، ألقت عليها المنشورات التراثية الجديدة لمسات من التصويب والتحقيق والتوضيح، واقتضت الأوضاع الثقافية الحالية نثره في طيات المتممات. ومن ذلك تفسير ما أغفلته قبل من الغريب، كان مألوفًا لدى القراء معناه، وأصبح الآن بحاجة إلى البيان والإيضاح، والأعلام من العلماء الذين تجاوزتُ الترجمة لهم صاروا مجاهيل في ميادين الدراسة والبحث، فكان واجبًا علي أن أعرف بهم أيضًا.
بل إن الشواهد الشعرية خالطها بعض القصور والوهم، لندارة المصادر آنذاك، ثم قدمت المنشورات التراثية الجديدة وجوهًا من الدقة والصواب في ذلك السبيل، فعرفنا أصحاب بعض الأشعار الغفل، وصححنا ما كان قد نسب إلى غير صاحبه. وكذلك الإحالات التي نثرها ابن عصفور وجد كثيرًا منها مصدره الذي نقل عنه، وكان من قبل تائهًا مجهول القرار.
وفي التعليقات أيضًا، أسقطتُ كثيرًا من العبارات التي تمثل تصحيف النساخ وأوهامهم، واكتفيت ببعض النماذج، تشير إلى ما كانت عليه النسخ، مع أنها قد عورضت وصححها علماء أعلام. ثم أضفت بقية الحواشي التي ألحقها أبو حيان وغيره، وهي كثيرة جدًّا تقدم للنص خدمة كبيرة، وتطلعنا على مصادر تراثية بعضها ما زال مجهولًا. وتزودنا بالبيان والتفسير والتوجيه والتقويم.
تلك هي الصورة الجديدة لـ "الممتع الكبير" أضعها بين أيدي الدارسين والباحثين والمحققين، آملًا أن تجد لها ما يناسبها من التقدير والعناية والاهتمام، وشاكرًا للمسؤولين عن "مكتبة لبنان" هذه البادرة الطيبة، التي فتحت لي باب العودة إلى كتابي الغالي، ليكون في ثوبه التام الأنيق الرصين. والحمد لله رب العالمين.
حلب في ١٨ من رجب سنة ١٤١٤
١ من كانون الثاني سنة ١٩٩٤ الدكتور فخر الدين قباوة
1 / 7
تمهيد:
وقفت، في زيارتي لإستانبول عام ١٩٦٣، على نسخة مخطوطة من كتاب "الممتع" في مكتبة "مراد ملّا"، فثبت لديّ أن ما ذكره المؤرخون عن هذه النسخة صورة مصغرة بالميكروفيلم، على أمل أن أتابع النسخ الأخرى، في مكتبات أُخر.
وقد تبين لي بعد المراجعات المتتابعة لهذه النسخة، أنها مخرومة ناقصة، لا يمكن الاعتماد عليها، في المعرفة التامة لهذا الكتاب. ولذلك كنت أشد حرصًا على تتبع ما يمكن أن يعثر عليه من النسخ، حتى وقفت على نسخة مخطوطة في مكتبة "فيض الله"، فكانت بحقّ الضالة التي أنشدها، لما تمتاز به من تمام وتوثيق وضبط. ثم وقفت على نسخة أبي حيان "المُبدع"، فشعرت أن أصول العمل العلمي قد توافرت، فلا بد من الشروع به، ليخرج إلى محبي العربية وخدمتها، بثوب يليق به وبمؤلفه. وهأنذا أدفع به إلى المطبعة، بعد أن حمَّلته، من الجهود والعناء والصبر، ما لا يقدّره إلا الله. فهو حسبي، ونعم الوكيل.
1 / 8
ابن عصفور:
هو أبو الحسن علي بن مؤمن بن محمد بن علي بن أحمد بن محمد النحوي الحضرمي الإشبيلي. ولد في مدينة إشبيلية من بلاد الأندلس سنة ٥٩٧هـ - ١٢٠٠م، وأخذ النحو والأدب واللغة من أشهر علماء عصره هناك. ولما بلغ من العلم منزلة الأستاذية شرع يدرّس علوم العربية في إشبيلية، ثم في حواضر الأندلس مدن: شَريش ومالَقة ولُورَقة ومُرسية. وكان يملي مصنفاته من حفظه دون كتاب. وهي الشروح التي وضعها على: الجمل للزجاجي، والإيضاح لأبي علي الفارسي، والمقدمة الجُزُولية، وكتاب سيبويه ...
ثم انتقل ذكره إلى المغرب، فودع الأندلس وجاز إلى مُرّاكش، يقيم في حواضرها ويملي مصنفاته، ثم انتقل إلى تونس، حيث أكرمه أمير المؤمنين المستنصر بالله محمد بن أبي زكرياء، واصطحبه في رحلاته ومجالسه، يشجعه على الإقراء والتعليم. وقد حن إلى وطنه فعاد إلى بعض مدن الأندلس، ثم عاد إلى مُرّاكش ومنها إلى تونس، حيث أقام في عاصمتها حتى توفي سنة ٦٦٩هـ - ١٢٧٠م، ودفن في مقبرة ابن مهنّا قرب جبانة الشيخ ابن نفيس.
وقد اختُلف في سبب وفاته، والراجح ما رواه الزركشي. وهو أن ابن عصفور١ كان في مجلس السلطان آنذاك، من أحد أيام الشتاء، في رياض أبي فهر قرب الجابية الكبيرة. وهي حوض ضخم. ولما افتخر السلطان بما في مملكته من مظاهر العظمة قال ابن عصفور، يذكّره فضل العلماء في ذلك: "بنا وبأمثالنا". فغضب السلطان وأمر بعض رجاله أن يلقوه بثيابه في الجابية، ويطيلوا بقاءه فيها. وبعد خروجه منها أصابته حمى شديدة، لبث فيها ثلاثة أيام، ثم قضى نحبه. ورثاه القاضي ابن المنير ناصر الدين أحمد بن محمد المالكي المتوفى سنة ٦٨٣، ببيتين زعم فيهما أن النحو انتهى بوفاته.
وذكر في تاريخ حياته أنه كان حامل لواء العربية في عصره، وأصبر الناس على المطالعة، لا يملّ
_________
١ الفصيح في اللغة أن لفظ "عصفور" بضم العين. وحكى ابن رشيق أنها تفتح في لغة. التاج "عصفر". وانظر ص١٠٥.
1 / 9