وحدك أنت لم يغرك البكاء ولا الخشوع، كنت فقط تراقب زوج الحمام من نافذة الكنيسة وهما يغازلان بعضهما البعض. راقبت ذكر الحمام وهو يبني عشا في ثقوب الكنيسة. لأنك أحببت الحمام؛ وضعت بقايا الشمع وقصاصات الورق من كتاب نشيد الأنشاد المهترئة، بالقرب من النافذة لتساعدهما في بناء عشهما. حين أشار لك الأب بالوقوف «الآن وقت الدعاء»؛ رفعت يدك في وجه مريم وقلت: يا مريم، احمي الحمامتين وأخبريهما أن يطلقا اسمي على صغيرهما.
الزغلول يا ميشيل صار حمامة بيضاء كبيرة، ترك ريشه الأصفر فوق بقايا كتاب الأنشاد وغادر بعيدا. لكن حين قررت أنت الرحيل صارت نوافذ الكنيسة تنوح، وسقفها بدأ ينهار، والكتب احتلها الغبار، والكراسي بدأت تقدم نفسها كمذاق الانتحار للنار. هاجم الغراب كل الأعشاش وهاجر الحمام ولم يعد.
لا تقرر الرحيل؛ أنت مثل هذا الرصيف الصخري الممتد في مياه البحر العكرة. تسبح أسماك «البوري» في تفاصيل القوارب بين الطحالب الخضراء والأصداف الميتة.
أن تمشي في شوارعنا وتلتقط بقايا الخبز من تحت عجلات السيارات، وتضعه على الرصيف أو ترميه فوق سطح البيوت (القرميد القديم) لتأكل عصافير الدوري؛ هذا شيء عظيم لا تحرمنا منه. تحزن حين ترى أحدا يرمم ثقوب جدار البيت الخارجية، تقول وقتها: كم عصفور يفقد عشه! كم نحلة ستغادر المكان! وتحزن جدا حين ترى الطيور في الأقفاص، ولا تأكل العسل من الخلايا الصناعية. كل هذا أنت الوحيد يا ميشيل تفكر فيه وحدك.
عزيزي الكاتب، كل يوم يضيق الأفق علي؛ حياتي في غزة كياقة قميص ضيقة ومعلق بها ربطة عنق عريضة. أنا لا أجيد الانتظار مثل الميناء (لا تصف بالميناء إلا إذا رست به القوارب). الأشياء لا يكتمل وصفها إلا بمهنتها.
عزيزي الكاتب، أنا أيضا أعرفك جيدا؛ مصاب بمتلازمة الدهشة، يصفر صدرك حين تتحدث معي كأنك مصاب بداء في رئتك. رائحتك قريبة جدا للطين، أنفاسك خليط من نعناع ودخان خفيف، عيناك خضراوان كورق التين في الربيع، ترتدي قمصانا بأكمام طويلة وتغلق أزرارها.
حين تقدم النصيحة لي كأنك واثق من نفسك كوتد خيمة الرحيل تقاوم الشتاء والريح والعواصف والشمس، هذه الخيمة صمدت أكثر من ستين عاما وما زالت واقفة. تحب الجلوس على قارعة الطريق، لا تهرب حين ينزل المطر، تراقب الخنافس حين تعبر الطريق السريع وتصفق لها حين تنجو من سرعة الموت، تحب أكل السمك الصغير، وحين تنتهي تقول أنا لا أجيد التمييز بين أنواع السمك، كله في فمي طعم واحد.
تضع أي عطر، وتضعه حين تكون مسرعا فقط. تحلق ذقنك بماكينة حلاقة زرقاء رخيصة الثمن، مهندم دائما كأن عليك ميعادا مهما رغم أنك لا تجلس إلا معي في أواخر الشتاء، تنشط كقطط شباط في الكتابة. لم تحب كأي فتاة، هذا ما أخبرتني إياه لأنك تحب أن تمارس الحب من طرف واحد.
لا تعزف الموسيقى ولك تجربة وحيدة، حين أغراك البيانو الأسود الضخم المتروك في زاوية عملك القديم؛ مشيت إلى ناحية البيانو وفي وجدانك نغمة تريد أن تعزفها، حاولت أن تترك أصابعك تسبح على أزرار البيانو، وعزفت وصارت الأنغام تشبه صوت السعال الديكي الذي يصاب به الأطفال في فصل الشتاء، وقتها قامت سكرتيرة المدير بالصراخ عليك؛ فانسحبت وخجلت من نفسك لتدميرك مزاجها في السمع.
لا تحب أن تجوع، وتحب التقليل من الضحك لتخفي أسنانك المصابة بالتسويس من كثرة الشوكولاتة المصرية رخيصة الثمن.
Unknown page