202

Mukhtaṣar Tafsīr Ibn Kathīr

مختصر تفسير ابن كثير

Publisher

دار القرآن الكريم

Edition Number

السابعة

Publication Year

1402 AH

Publisher Location

بيروت

Genres

Tafsīr
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ* فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ﴾، وَكَذَلِكَ فعل بِمَنْ كَفَرَ بِالْمَسِيحِ مِنَ الْيَهُودِ أَوْ غَلَا فيه أو أطراه مِنَ النَّصَارَى، عَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَإِزَالَةِ الْأَيْدِي عَنِ الْمَمَالِكِ وَفِي الدَّارِ الْآخِرَةِ عَذَابُهُمْ أَشَدُّ وَأَشَقُّ ﴿وَمَا لَهُم من الله من واق﴾، ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فِي الدُّنْيَا بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْجَنَّاتِ الْعَالِيَاتِ ﴿وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ أَيْ هَذَا الذي قصصنا عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ فِي أَمْرِ عِيسَى وَمَبْدَأِ ميلاده وكيفية أمره، هو مما قاله تَعَالَى وَأَوْحَاهُ إِلَيْكَ، وَنَزَّلَهُ عَلَيْكَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَلَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ* مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ وههنا قال تعالى:
- ٥٩ - إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
- ٦٠ - الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ
- ٦١ - فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ
- ٦٢ - إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
- ٦٣ - فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين
يقول جل وعلا: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ﴾ فِي قُدْرَةِ الله حَيْثُ خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ ﴿كَمَثَلِ آدَمَ﴾ حيث خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، بَلْ ﴿خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ فالذي خلق آدم من غير أب قادر على أن يخلق عِيسَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَإِنْ جَازَ ادِّعَاءُ البُنُوَّة في عيسى لكونه مَخْلُوقًا مِنْ غَيْرِ أَبٍ فَجَوَازُ ذَلِكَ فِي آدَمَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَمَعْلُومٌ بِالِاتِّفَاقِ أَنَّ ذَلِكَ باطل، فدعواهم فِي عِيسَى أَشَدُّ بُطْلَانًا وَأَظْهَرُ فَسَادًا، وَلَكِنَّ الرب ﷻ أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ قُدْرَتَهُ لِخَلْقِهِ حِينَ خَلَقَ آدَمَ لَا مِنْ ذَكَرٍ وَلَا مِنْ أُنْثَى، وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، خلق عِيسَى مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، كَمَا خَلَقَ بَقِيَّةَ الْبَرِيَّةَ مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ﴾، وقال ههنا: ﴿الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ﴾ أي هذا هو القول الْحَقُّ فِي عِيسَى الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ وَلَا صَحِيحَ سِوَاهُ، وَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلَالُ! ثُمَّ قَالَ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ ﷺ أَنْ يُبَاهِلَ مَنْ عَانَدَ الْحَقَّ فِي أَمْرِ عِيسَى بَعْدَ ظُهُورِ الْبَيَانِ: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ﴾ أَيْ نَحْضُرُهُمْ فِي حال المباهلة ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ أَيْ نَلْتَعِنْ ﴿فَنَجْعَل لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ أي منا ومنكم.
وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْمُبَاهَلَةِ وَمَا قَبْلَهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا فِي وَفْدِ نجران: إن النصارى لما قدموا فجعلوا

1 / 287