160

Mukhtasar Tafsir Ibn Kathir

مختصر تفسير ابن كثير

Publisher

دار القرآن الكريم

Edition Number

السابعة

Publication Year

1402 AH

Publisher Location

بيروت

Genres

Tafsīr
- ٢٥٦ - لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِالْلَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ أَيْ لَا تُكْرِهُوا أَحَدًا عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ بيِّن وَاضِحٌ، جَلِيٌّ دَلَائِلُهُ وَبَرَاهِينُهُ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُكْرَهَ أَحَدٌ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ، بَلْ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ وَشَرَحَ صَدْرَهُ ونوَّر بَصِيرَتَهُ دَخَلَ فِيهِ عَلَى بَيِّنَةٍ، وَمَنْ أَعْمَى اللَّهُ قَلَبَهُ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُهُ الدُّخُولُ فِي الدِّينِ مُكْرَهًا مَقْسُورًا، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَإِنْ كَانَ حُكْمُهَا عَامًّا. وقال ابن جرير عَنِ ⦗٢٣٢⦘ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَكُونُ مقلاة فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ، فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ فَقَالُوا: لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﷿: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (أخرجه ابو داود والنسائي) وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ قَالَ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ يُقَالُ لَهُ الْحُصَيْنِيُّ، كَانَ لَهُ ابْنَانِ نَصْرَانِيَّانِ، وَكَانَ هُوَ رَجُلًا مُسْلِمًا فَقَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ﴿أَلَا أَسْتَكْرِهَهُمَا، فَإِنَّهُمَا قَدْ أَبَيَا إِلَّا النَّصْرَانِيَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ ذَلِكَ (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ والسدي) وقال ابن أبي حاتم عن أبي هلالا عن أسبق، قَالَ: كُنْتُ فِي دِينِهِمْ مَمْلُوكًا نَصْرَانِيًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَكَانَ يَعْرِضُ عليَّ الْإِسْلَامَ فَآبَى، فَيَقُولُ ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، وَيَقُولُ: يَا أسبق لَوْ أَسْلَمْتَ لَاسْتَعَنَّا بِكَ عَلَى بَعْضِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ دخل دِينِهِمْ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ إِذَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُدْعَى جَمِيعُ الْأُمَمِ إِلَى الدُّخُولِ فِي الدِّينِ الْحَنِيفِ (دِينِ الْإِسْلَامِ)، فَإِنْ أَبَى أَحَدٌ مِنْهُمُ الدُّخُولَ فِيهِ وَلَمْ يَنْقَدْ لَهُ، أَوْ يَبْذُلِ الْجِزْيَةَ، قُوتِلَ حَتَّى يُقْتَلَ، وَهَذَا مَعْنَى الْإِكْرَاهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ الله مع المتقين﴾. وَفِي الصَّحِيحِ: «عَجِبَ رَبُّكَ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ»، يَعْنِي الْأَسَارَى الَّذِينَ يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثاق وَالْأَغْلَالِ وَالْقُيُودِ وَالْأَكْبَالِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُسْلِمُونَ وَتَصْلُحُ أَعْمَالُهُمْ وَسَرَائِرُهُمْ فَيَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عَنْ أنَس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِرَجُلٍ: «أَسْلِمْ»، قَالَ: إِنِّي أَجِدُنِي كَارِهًا، قَالَ: «وَإِنْ كُنْتَ كَارِهًا»، فَإِنَّهُ ثلاثي صحيح، لكن لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُكْرِهْهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْإِسْلَامِ بل دعاه إليه، فأخبره أَنَّ نَفْسَهُ لَيْسَتْ قَابِلَةً لَهُ بَلْ هِيَ كَارِهَةٌ، فَقَالَ لَهُ أَسْلِمْ وَإِنْ كُنْتَ كَارِهًا، فَإِنَّ اللَّهَ سَيَرْزُقُكَ حُسْنَ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِالْلَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أَيْ مَنْ خَلَعَ الْأَنْدَادَ وَالْأَوْثَانَ وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ مِنْ عِبَادَةِ كُلِّ مَا يُعْبَدُ مَنْ دُونِ اللَّهِ، ووحَّد اللَّهَ فَعَبَدَهُ وَحْدَهُ، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾، أَيْ فَقَدْ ثَبَتَ فِي أَمْرِهِ وَاسْتَقَامَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى وَالصِّرَاطِ المستقيم. قَالَ عُمَرُ ﵁: إِنَّ الْجِبْتَ السحر، والطاغوت الشيطان، وَإِنَّ كَرَمَ الرَّجُلِ دِينُهُ، وَحَسَبَهُ خُلُقُهُ وَإِنْ كان فارسيًا أو نبطيًا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي الطَّاغُوتِ إِنَّهُ الشَّيْطَانُ، قَوِيٌّ جِدًّا فَإِنَّهُ يَشْمَلُ كُلَّ شَرٍّ كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ: مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَالتَّحَاكُمِ إِلَيْهَا، والاستنصار بها.
وقوله تعالى: ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا﴾، أَيْ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ مِنَ الدِّينِ بِأَقْوَى سَبَبٍ، وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصم هي فِي نَفْسِهَا مُحْكَمَةٌ مُبْرَمَةٌ قَوِيَّةٌ، وَرَبْطُهَا قَوِيٌّ شَدِيدٌ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفصام لَهَا﴾ الآية، قال مجاهد: العروة الْوُثْقَى يَعْنِي الْإِيمَانُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الْإِسْلَامُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: يَعْنِي ﴿لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ وَعَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ: العروة الوثقى القرآن، وعن سالم ⦗٢٣٣⦘ ابن أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: هُوَ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ صَحِيحَةٌ ولا تنافي بينها.
وقال الإمام أحمد عن محمد بن قيس بن عبادة قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فِي وجهه أثر من خشوع، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَوْجَزَ فِيهِمَا، فَقَالَ الْقَوْمُ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا خَرَجَ اتَّبَعْتُهُ حَتَّى دَخَلَ مَنْزِلَهُ فَدَخَلْتُ مَعَهُ فَحَدَّثْتُهُ، فَلَمَّا اسْتَأْنَسَ قُلْتُ لَهُ: إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ قَالُوا كَذَا وَكَذَا، قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَعْلَمُ، وَسَأُحَدِّثُكَ لمَ؟ إِنِّي رَأَيْتُ رُؤْيَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ: رَأَيْتُ كَأَنِّي فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ - قَالَ ابْنُ عَوْنٍ فَذَكَرَ مِنْ خُضْرَتِهَا وَسِعَتِهَا - وفي وَسَطُهَا عَمُودُ حَدِيدٍ أَسْفَلُهُ فِي الْأَرْضِ وَأَعْلَاهُ فِي السَّمَاءِ، فِي أَعْلَاهُ عُرْوَةٌ، فَقِيلَ لِيَ: اصْعَدْ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَا أَسْتَطِيعُ، فَجَاءَنِي مِنْصَفٌ - قَالَ ابْنُ عَوْنٍ هُوَ الْوَصِيفُ - فَرَفَعَ ثِيَابِي مِنْ خَلْفِي، فَقَالَ: اصْعَدْ، فَصَعِدْتُ حَتَّى أَخَذْتُ بِالْعُرْوَةِ، فَقَالَ: اسْتَمْسِكْ بِالْعُرْوَةِ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَإِنَّهَا لَفِي يَدِي فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ فَقَالَ: «أَمَّا الرَّوْضَةُ فَرَوْضَةُ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْعَمُودُ فَعَمُودُ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْعُرْوَةُ فَهِيَ (الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى) أَنْتَ عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى تموت» (رواه أحمد وأخرجاه في الصحيحين، وأخرجه البخاري من وجه آخر) قال: وهو عبد الله ابن سلام.

1 / 231