Mukhtarat Min Qisas Qasira
مختارات من القصص القصيرة
Genres
أيجب عليه، بوصفه رجلا أمينا، الاحتفاظ بالروح التي كان قد حازها من يان بوسيلة قد يشوبها بعض الخداع؟ أجل، يستطيع الاحتفاظ بها؛ إذ كانت الصفقة عادلة، وقد تلقى يان الثمن. علاوة على ذلك، يان لم يشكل روحه بنفسه؛ بل تشكيل الأرواح يحكمه قانون الصدفة. لم ينبغي أن يمنح رجل ما ذهبا ويمنح آخر حصى؟ إن حقه في روح يان لا يقل عن حق الأخير فيها. إنه أكثر حكمة منه، وفي وسعه فعل خير أكبر بتلك الروح. إن روح يان هي التي أحبت كريستينا؛ فلندع روح يان تفز بها إن استطاعت. استمعت روح يان إلى تلك الحجج، ولم تستطع إيجاد ما تعترض به عليها.
كانت كريستينا لا تزال غافية عندما دخل نيكولاس المطبخ مجددا. أشعل النار، وأعد طعام الإفطار، ثم أيقظها برفق. وحينئذ لم يعد يساوره شك في أنها كريستينا. ففي اللحظة التي وقعت عيناها على وجهه العجوز، عادت إليها نظرة الأرنب المذعور التي لطالما ضايقته في الماضي. وقد ضايقته الآن، لكن الضيق كان موجها نحو نفسه.
استهلت كريستينا الحديث قائلة: «كنت مستغرقا في نوم عميق عندما دلفت إلى الغرفة ليلة أمس ...»
قاطعها نيكولاس قائلا: «وخفت أن توقظيني.» ثم أضاف: «ظننت أن العجوز الفظ سوف يغضب. اسمعي يا كريستينا. لقد دفعت أمس آخر دين من ديون أبيك. كان يدين به لبحار عجوز؛ لم أستطع العثور عليه قبلا. لقد قضيت دينك لي، بل يتبقى لك قدر من المال، جزء من أجرك مقابل العمل لدي، مقداره مائة فلورين. ذلك مالك الخاص يمكنك أن تطلبيه مني وقتما تشائين.»
لم تستطع كريستينا فهم ما جرى، لا وقتها ولا في الأيام التالية؛ ولم يعطها نيكولاس تفسيرا. إذ إن روح يان كانت قد انتقلت إلى رجل عجوز بالغ الحكمة، أدرك أن الطريقة المثلى لتناسي الماضي هو عيش الحاضر بجرأة وشجاعة. كانت متأكدة وحسب من أن نيكولاس سنايدرز القديم قد اختفى في ظروف غامضة، وحل محله نيكولاس جديد، كان يتطلع إليها بعينين حانيتين؛ عينين صريحتين وصادقتين، تجبران المرء على الوثوق بهما. وعلى الرغم من أن نيكولاس لم يقل ذلك قط، خطر لكريستينا أنها هي نفسها من أحدثت ذلك التغيير العجيب، عبر أثرها الطيب وطبعها الدمث. ولم يبد هذا التفسير مستحيلا لكريستينا؛ بل بدا مرضيا.
أضحى منظر المكتب المكدس بالأوراق كريها في عين نيكولاس. لذا كان يخرج في الصباح الباكر، ويقضي اليوم كله بالخارج، ثم يعود في المساء متعبا لكن مبتهجا، جالبا معه زهورا، كانت كريستينا تخبره، وهي تضحك، أنها مجرد حشائش. لكن ماذا تهم المسميات؟ كان نيكولاس يراها زهورا جميلة. في مدينة زاندام، كان الأطفال يهربون منه، والكلاب تنبح خلفه. لذا كان يفر عبر الطرق الجانبية، متوغلا في الريف المحيط بالمدينة. وهناك في القرى المتناثرة، اعتاد الأطفال على رؤية ذلك الرجل العجوز طيب القلب ، الذي يسير متمهلا متكئا على عصاه، ويشاهدهم بينما يلعبون مستمعا إلى ضحكاتهم؛ ذاك الرجل الذي كانت جيوبه الرحبة تذخر بالحلوى اللذيذة. وكان أهل القرى المارون به يتهامسون فيما بينهم ملاحظين التشابه بين ملامحه وملامح نيك العجوز اللئيم، بخيل زاندام، ويتساءلون ترى من أين أتى؟ ولم تكن وجوه الأطفال وحدها هي ما علمت شفتي نيكولاس الابتسام. في بداية تحوله، كان منزعجا من حقيقة أن العالم يعج بفتيات ذوات جمال فتان، بل بنساء جميلات كذلك، جميعهن جديرات بالإعجاب. أربكه ذلك. لكنه وجد أن كريستينا ظلت دوما في خاطره الأجمل بين جميع من رأى من نساء، وأكثرهن إثارة للإعجاب. ومنذ ذاك الحين صار كل وجه جميل يبهجه؛ إذ كان يذكره بوجه كريستينا.
عند عودته من تجواله في اليوم الثاني، قابلته كريستينا والحزن في عينيها. كان قد جاء المزارع بيرستراتر، وهو صديق قديم لوالدها، لزيارة نيكولاس؛ وعندما لم يجده، تحدث قليلا مع كريستينا. حكى لها أن دائنا قاسي القلب كان يسعى لطرده من مزرعته. تظاهرت كريستينا أنها لا تعلم أن ذلك الدائن كان نيكولاس نفسه، وأبدت تعجبها من تصرفات أولئك الرجال ذوي الطابع اللئيم. لم يرد نيكولاس بشيء، لكن في اليوم التالي قدم المزارع بيرستراتر مجددا بوجه فرح مستبشر، وشرع يردد عبارات الشكر ويعبر عن عظيم دهشته.
أخذ يتساءل المزارع بيرستراتر مرة تلو الأخرى: «لكن ما الذي يمكن أن يكون قد حل به يا ترى؟»
ابتسمت كريستينا مجيبة أن الرب الرحيم قد زرع في قلبه الرحمة على الأرجح؛ لكنها فكرت في نفسها أنه ربما كان تحوله بفعل تأثير طيب من مصدر آخر. ذاعت القصة في المدينة. وأحاط الناس بكريستينا من كل صوب، طالبين شفاعتها لدى نيكولاس، ولما كان لتدخلاتها من أثر ناجع، زاد رضا الفتاة عن نفسها يوما بعد يوم، وزاد رضاها عن نيكولاس بالتبعية. إذ كان نيكولاس عجوزا ماكرا. وقد استمتعت روح يان التي بداخله بمحو ما ارتكبته روح نيكولاس من شرور. لكن عقل نيكولاس سنايدرز الذي لم يغادره قط كان يهمس له : «فلتدع الصبية الشابة تظن أنها هي من تسببت في ذلك كله.»
بلغت الأخبار مسامع السيدة تولاست. وفي الليلة نفسها كانت جالسة على المقعد المجاور للمدفأة في مقابل نيكولاس سنايدرز، الذي كان يدخن وبدا عليه الملل.
Unknown page