ولا يترك هذا الموقف ولا يتحول عنه إلا إذا وقف القطار، وما هو إلا أن ينفخ في زمارته حتى يثبت إلى موقفه، فيصلح من ثيابه ما كرشت منها حركة النزول والصعود، ثم يعود إلى شأنه مع تلك السيدة، وظل على هذا لا «يصرف لراكب تذكرة»، ولا يبالي من هبط ومن صعد، حتى بلغ القطار ميدان الأزهار، فثار لهذه الحال ثائر بعض الركاب، وإن سر آخرون بما وفر عليهم من قروشهم، فوثب إليه من بين الركب رجل غيور من الظرفاء، وصكه على صدغه بجمع يده، وقال له: يا ابن ال ... هب هذه السيدة وقعت في شرك غرامك، وسألتك النزول معها لنزهة تقضيان فيها حقوق الغرام! فلمن تدفع الآن هذا الخرج المعلق في رقبتك بحمائله؟ وأي فم يقوم مقام فمك لهذه الزمارة التي في يدك؟! فكان اغتباط وكان ضحك! •••
فإذا بحثت بعد ذلك عما يبعث هؤلاء الفتيان على كل هذا، مع ما فيه من كد لا فائدة فيه، وعناء لا رجاء وراءه، إلى ما فيه من الهوان وشدة الابتذال، والتعرض للأذى بالشتم، أو الضرب، أو السجن، فلا ترى الأمر كله يعدو أن يكون هواية (غية) حمقاء لا أكثر ولا أقل، أو كما قال المثل العامي: «اليد البطالة نجسة.»
وصدق من قال: «أصحاب العقول في راحة!»
بطولة! ...1
(1)
وإنها عندي، لبطولة حق لا تقل قدرا ولا خطرا عن أية بطولة في أي سبيل آخر، وإن صاحبها «البطل» لحقيق من نفسه بالزهو والتتايه، وإنه لحقيق من الناس بأجل الإعظام وأبعد الإعجاب!
قلت لك إنها بطولة «عندي» لأنها كذلك في الواقع، ولك أنت أن تخرجها عن دائرة البطولة، ولك أن تضعها من الخلال حيث شئت، ولك أن تجري عليها ما تشاء من الأحكام، ولكن الذي ليس لك، والذي لا آذن لك به أن تدخل بيني وبين رأيي ومعتقدي، فتضيف إلي ما تشاء، وتنفي عني ما تشاء، وأظن أن هذا أقسى ما عرفت طبائع الاستبداد من العصف بحرية الآراء!
لك أن تقول إن مذهبي في هذا فاسد، وإن رأيي قبيح، وإن سوء التفكير أزلقني في الأمر إلى الضلالة، أما أن تزعم أن ذلك ليس من رأيي، وأنني أسر الخلاف له في أطواء نفسي، فذلك ما لا أحسبه مما كان في الزمان، ولا أحسبه مما يكون، فليس يعلم ما تسر القلوب إلا علام الغيوب!
وهؤلاء «الأبطال» أحبهم وأجلهم، وتكاد تتعلق نفسي من شدة الإعجاب بهم كلما رأيتهم، وسمح لي الزمان بالجلوس إليهم، وإن الزمان بمثل هؤلاء لجد بخيل!
هؤلاء هم أبطال «الحديث»، وللحديث - لو عرفت - أبطال كما للحروب أبطال، وللسياسة أبطال، وللآراء في العلم والأدب والاجتماع أبطال.
Unknown page