305

وحانت ساعة الفراق ليمضي كل منا إلى وجهه، فشد على يدي، وكرش وجهه، وزر على عينيه، وقال لي، وهو يكاد ينشج بالبكاء: والنبي ...! - ماذا تريد أيضا؟ - والنبي ...! - قل يا أخي: ماذا تريد أن أصنع؟! - والنبي ...! - قل يا أخي: ماذا تبغي مني بعد ذلك، فقد كدت تذهب بعقلي ...؟! - والنبي ...! - آه! لقد فهمت، تزيد أن أعمل عملا يكره الرجل إكراها على قضاء حاجتك! - نعم!

كان بعض صغار الفلاحين وأشباههم إذا وقعت على الرجل منهم مظلمة لا يجد النصفة منها عند صغار الحكام، استكتب بشأنها «عرضحالا» وارتصد لصاحب الشأن الأعلى من كبار الولاة، حتى إذا جاز بمركبته، ألقى بنفسه تحت سنابك الخيل، وبذلك يلفت إليه الوالي، فيتلقى «عرضحاله» ويصغي إلى مظلمته، وينظر في شأنه، وليس لدينا يا ابن العم إلا هذه الطريقة! فقال لي: وكيف ذلك؟ قلت: دعني اليوم أسوي في مسألتك «عرضحالا»، وتجيئني من غدك في الصباح الباكر، حيث نرصد صاحبنا قرب ديوانه، حتى إذا طامنت سيارته من سرعتها ألقيت بنفسي وفي يدي «العريضة» تحت عجلاتها، فلا أصاب بأكثر من كسر بسيط في الساق، أو اختلاف في بعض الأضلاع يسير، أو شج لا خطر له في الرأس، ولكن الأمر على كل حال، سيتعاظم الرجل ويروعه كل مروع، فيجعل بقضاء حاجتك!

فقال: بارك الله فيك يا ابن العم، ولا حرمنا همتك، وهذا هو الظن بك والعشم فيك! وتواعدنا على أن يجيئني من غده في الساعة السابعة صباحا.

وأقبل علي صاحبي وقال: أفتدري ماذا حدث اليوم؟ قلت: ماذا؟ قال: بينا أنا في سريري متدثرا احتماء من البرد القارس إذ جاءتني الخادم تقول لي: إن ابن عمك في انتظارك، وهو يتعجل نزولك إليه لتمضيا إلى الميعاد الذي اتفقتما عليه أمس! •••

أرأيت يا أخي أشره من ذلك الرجل وأطبع، وأبرد وأصقع، وأسمج وأثقل، وأصفق وأرزل.

فقلت له: أعانك الله!

ظرف ...!

فلان المهندس البدين، الغليظ الوجه، المنتفخ الشدق، الأزرق الجلد، الدقيق الجبين، النكير الصوت، لقد جفت فيه الأقلام وطويت الصحف، وشهد الله وملائكته والناس أجمعون أنه ثقيل الظل، شديد الوطأة على النفس، وإذا طلع عليك أحسست بغمز على القلب، ووخز في الحشا، وهو على هذا كثير الانصباب على الناس، شديد التهافت على مجالسهم، لا يرى جماعة ممن ابتلاهم القدر بمعرفته إلا جاء بكرسي وزج بنفسه فيهم، لا يجلس بكل ثقله على الأرض ولكن يجلس على أرواحهم، ثم يظل ثابتا في المجلس لا يبرح ولا يتحلحل، ولا يقوم لحاجة، ولا تصرفه ضرورة، ولا يعجله أي شأن من شئون الدنيا جميعها.

ثم هو لا يدع حديثا إلا خاض فيه، ولا شأنا من شئونهم إلا أمعن في تفقده وتقليبه، ولا أمرا من أمورهم إلا استخرج خافيه، ونبش بالسؤال حاضره وماضيه، فإذا انتفض واحد عن المجلس لبعض شأنه أقبل عليه يسائله: لماذا يمضي وأين يمضي؟ وما طريقه وما غايته؟ وناقشه فيما تعود به هذه الغاية من خير وشر ونفع وضر، وإذا رأى واحدا يلبس حلة جديدة «فتح» له محضر تحقيق في «قماشها» أولا، وفي لونها ثانيا، وفي تفصيلها ثالثا، وفي ثمنها رابعا إلخ، وإذا رأى اثنين يتساران دس رأسه بينهما ودخل معهما في نجواهما.

ومن أحدث نوادره وأطرفها أنه كان ضاغطا (كابسا) يوما على بعض أولئك الصحاب المساكين، فجاء عامل البريد ودفع إلى أحدهم خطابا، وفيما كان الرجل يعالج شق الغلاف عنه، كان صاحبنا يسرع في إخراج «نظارته» فيمسحها بمنديله، ثم يضعها على عينيه استعدادا ... لقراءة «الجواب»!

Unknown page