298

لقد استمكنت شهوة التطفيل من الرجل، حتى استحالت فيه طبيعة وغريزة وجبلة، فأمسى يطلبها لذاتها متجردة من أي اعتبار آخر، إنه شهوان إلى طعام الناس، يسقط عليه، ويقتحم له مهما يصبه في سبيله من المشقة حتى في إتلاف الأموال!

ولقد كان في مصر طوائف من أولاد «الذوات» المسرفين المستهترين بألوان المنكرات، ولقد تصفر أيديهم في بعض الأحيان، بضن الوالدين، أو بتعجيل الإتلاف لوظيفة الشهر أو لذخيرة العام، أو بغير ذلك من أسباب العسر، فكيف لهم بالمال؟

لقد عرفوا الشيخ غندرا، وأدركوا مدى هم البطن فيه، وهداهم الرأي إلى استغلاله من هذه الناحية، فإذا أعوزوا واحتاجوا إلى المال، بعثوا في طلب حمل «قوزي» أو ديك رومي، ودفعوه إلى طاهي أحدهم، وأوصوه بأن يحسن إنضاجه، وبأن يطهي ألوانا أخرى من شهي الطعام وفاخر الحلوى، ثم دسوا على الشيخ حسن من يخبره الخبر، ويستوصيه بألا يفشي للجماعة سره، فيهرول من فوره إليهم، حتى إذا طلع عليهم تنكروا له، وربما ردوه بالقول الغليظ، وهو يستعطفهم ويتوسل إليهم، وربما تركهم في إصرار وانسل إلى المطبخ، حتى إذا رأى ما رأى وشم ما شم، انقلب إليهم وقد زاغ بصره، وتقلصت شفته، وجعلت أسنانه تقضقض قضقضة المقرور، ثم عاد يتوسل ويتدلل، فيباديه بعض القوم بأنه حلف بكل مؤثمة من الأيمان ألا يقرب الطعام إلا إذا أقرضه عشرين جنيها أو ثلاثين لغاية الشهر، فيسرع إلى داره، إذا لم تكن حاضرة في جيبه، ويجيء بها ما تنقص قرشا واحدا، وهو الذي يحتمل أجر المركبة إذا كانت المسافة مما يستدعي اتخاذ المركبات، وربما ورطوه في ضمانة أو نحوها من وجوه الالتزامات، ففعل نزولا على حكم البطن العاتي الجبار، وهكذا ...!

ولقد ترامى هذا إلى غيرهم من «أولاد البلد» فحذوا في استخراج الأموال منه حذوهم، حتى أفلس الرجل وأمحل ولصقت يده بالتراب! •••

هذا ما كان من أمر الشيخ حسن غندر في طعامه، أما ما كان من أمر شرابه، فلقد كان لبطنه فيه كذلك عبقرية وجبروت.

وإني أبادر فأؤكد لك أنني لا أعني بالشراب الخمر، فإن الرجل لم يكن يذوقها قط، فلقد كان رحمه الله، شديد التأثم، حريصا على دينه من هذه الناحية، إنما أعني بالشراب ما احلولى طعمه، وساغ في الشرع حكمه، وإن كان لا يرى حرجا من منادمة جماعات الشاربين.

وإني أكتفي في هذا الباب، بذكر نادرة واحدة من نوادره، نتم بها الكلام، لتكون «مسك الختام»:

في ذات عشية سقط الشيخ غندر على «فلان بك»، وكان غفر الله له، من أبناء «الذوات» الموسرين، المتهترين بالشراب، وهو كذلك من أولاد النكتة أصحاب البدائة، وكان الشيخ غندر أثيرا عنده، يستمتع بلطف حديثه، كما يستمتع برؤيته في ثورة نهمه.

وقبل أن يمضي إلى مباءات سكره وعبثه، استصحب الشيخ إلى بعض المطاعم المشهورة، وحكمه فيها يشتهي، حتى إذا بلغ كفاياته من الطعام ومن الحلوى والفاكهة أيضا، وناهيك بكفايات الشيخ غندر، انكفأ به إلى بعض الحانات الكبيرة، ودعا لنفسه بخمر مما يشرب في الكئوس الدقاق، ودعا للشيخ بكوب من «الشربات»، فجاء الغلام بكأس الخمر، وجاء معه بكوب كبير جدا من «الشربات»، وما كاد صاحبنا يفرغ الخمر في حلقه في جرعة، حتى رأى الشيخ يصب كوبه الضخم في بعض جرعة، ثم دعا بالغلام وسأله كأسا له أخرى، وهنا تقدم الشيخ حسن وقال للغلام: أريد يا بني أن تأتيني هذه المرة بشراب الورد، فإنه طيب الرائحة لذيذ الطعم، ثم طلب صاحبنا الثالثة، فأسرع الشيخ وقال للغلام: أما هذه المرة فعلي بشراب اللوز (الصومادة)، فإنه يصلح المعدة ويبرد من حرارة القلب، ثم دعا صاحبنا بكأس رابعة، فقال الشيخ للغلام: علي هذه المرة يا بني بشراب البنفسج (الفيوليت)، فإنه بديع النكهة ساحر المذاق!

ثم رأى صاحبنا - على عادة المستهترين من أصحاب الشراب - أن يتحول إلى حان آخر، فدعا لنفسه بخمر، ودعا الشيخ لنفسه كذلك «بشربات»، وظلا يتحولان معا من حان إلى حان، يشرب صاحبنا خمرا ويشرب الشيخ بإزائه «شربات» حتى كاد ينصدع عمود الصبح، ثم انقلبا إلى الدور، فإذا هذا قد أصاب اثنين وعشرين كأسا من الخمر، وإذا الشيخ غندر قد والى بإزائه بين اثنين وعشرين كوبا من، «الشربات»!

Unknown page