265

وأخيرا، فإذا كانت هناك جهود تبذل، صادقة ماضية حينا، ومهوشة متعثرة أحيانا، للترجمة بالموسيقى عما يعتلج في النفس من ألوان العواطف وما يتوارد على الذهن من شتى الخواطر، فإنني لم أر امرءا في عصرنا هذا كتب له من التوفيق في هذا الباب ما كتب لسيد درويش.

لقد كان هذا الرجل إلى ما رزق من تمام الذوق وصدق العاطفة مرهف الحس جدا، حتى تتمثل له دقائق المعاني في صور سوية تكاد ترى وتلمس فإذا هو اجتمع ليجريها نغما، حاول مخلصا جاهدا أن يصورها لك كما تصورها، فبلغ من ذلك في الغالب غاية ما يأذن به جهد التلحين والتنغيم.

ولست بهذا أزعم أن الموسيقى - وأعني الموسيقى المصرية التي أتذوقها - تترجم عن ألوان العواطف وفنون المعاني ترجمة البيان وما يدنو من ترجمة البيان، فإن إيماني ضعيف بهذا كل ضعف، وإنما أعني مجرد المشاكلة والمجانسة بين المعاني وبين ما يصاغ لها من فنون التلاحين.

وكيفما كانت الحال، فإن سيد درويش قد نجح نجاحا لم يبلغ أحد مبلغه في تلحين «الروايات» الاستعراضية، فقد هيأت الفرصة لبراعته في الحكاية عن حال الجماعات والطوئف المختلفة بألوان التناغيم، بحيث لو أرسلت بها الأصوات ساذجة باغمة لا تدل على معنى ولا تشير إلى غرض، لنمت وحدها على من تترجم عنهم، وتنتحل الغناء الذي ينبغي أن تلوكه ألسنتهم وتمط به حلوقهم!

وبعد، فإنني أقدر أنه لو قد فسح لهذا الشاب في الأجل، لكان أقدر أهل العصر على تلحين «الأوبرا» العربية، ولبلغنا من هذا منية لقد طالما تعلقت بها الآمال، واستشرف لها الخيال!

رحمه الله رحمة واسعة، وعزانا عنه العوض الصالح الكفء، وما ذلك على الله بعزيز!

ملحق في سيرة سيد درويش

يجمل بنا أن نورد هنا طرفا مما وقع للكاتب بعد ذلك عن نشأة سيد درويش ومجمل تاريخه، فأثبته في محاضرة ألقاها من محطة الإذاعة أيضا في السنة التالية:

نشأ سيد في مدينة الإسكندرية، ولما ترعرع مضى به أبوه إلى الكتاب، على عادة أوساط الناس، فتعلم القراءة والكتابة، وحفظ صدرا عظيما من القرآن الكريم، إذ لم يكن قد حفظه كله، ثم دفع إلى مدرسة أهلية، وأدعوها مدرسة على سبيل التجوز، فإنها من تلكم المعاهد التي لا ترتقي إلى المدارس المعتبرة، ولا تتدلى إلى أفق الكتاتيب، وتلك المدرسة كانت تدعى «شمس المدارس»، وتقوم في حارة الشمرلي الواقعة في دائرة قسم الجمرك، ويتولى إدارتها رجل يدعى عبد القادر أفندي الأيوبي.

وكان أستاذ الرياضة في هذه المدرسة رجلا يدعى نجيب أفندي عريان، وهو ممن كانوا ينشدون مع المرحوم الشيخ سلامة حجازي، فجعل يلقن التلاميذ أناشيد الشيخ «وسلاماته»، فكان من أشدهم إقبالا عليها ونشاطا في الترنيم بها، وأحرصهم على الدقة في أدائها هذا الفتى سيد درويش، ويصح فيه المثل العامي: «الديك الفصيح، يخرج من البيضة يصيح!»

Unknown page