Mujmal Tarikh Dumyat
مجمل تاريخ دمياط : سياسيا واقتصاديا
Genres
هذه الحوادث الأولى وحوادث الحملة جميعا تدل على أن المصريين أفادوا كل الفائدة من الحملة الماضية، كما تدل على أن الصليبيين لم يفيدوا شيئا من أخطائهم في الحملة السابقة، فقد أدرك المصريون أن حملة جان دي بريين قد نزلت أول ما نزلت على الشاطئ الغربي لدمياط؛ ولذلك أمر الملك الصالح جيشه بأن يعسكر على هذا البر ليمنع نزول الصليبيين عليه، وقد كان السبب الأكبر في فشل الحملة الأولى أنها نزلت على دمياط وأرادت الوصول إلى القاهرة بالمسير بمحاذاة فرع دمياط فاعترضتها المجاري المائية الكثيرة المتفرعة عن هذا الفرع، وكان يمكنهم أن يتفادوا هذا الخطأ في محاولتهم الثانية فينزلوا على الإسكندرية ولكنهم لم يفعلوا.
وفي الساعة الثانية من نهار الجمعة لتسع بقين من صفر سنة 647 (يونيو 1249) وصلت سفن الفرنسيين إلى الشاطئ المصري وأرست بإزاء المسلمين، فراعهم كثرة الجيوش المصرية على الشاطئ، كما خطف بأبصارهم بريق أسلحة المسلمين، وعلا صهيل خيولهم وزادت جلبة جندهم، فأفزع الفرنسيين وهم لا يزالون في سفنهم. يصف «جوانفيل» - مؤرخ الحملة وأحد قوادها - الرهبة التي ملكت على الفرنسيين أنفسهم عند رؤية الجيش المصري فيقول: «وصل الملك أمام دمياط، ووجدنا هنا كل جيوش السلطان تقف علي الشاطئ: كتائب جميلة تسر الناظرين، ذلك أن أسلحة السلطان قد صنعت من ذهب، فكانت الشمس تشرق على هذه الأسلحة فتزيدها بريقا ولمعانا، وكانت الجلبة التي يأتون بصنوجهم وأبواقهم الشرقية تدخل الرعب في أفئدة السامعين.»
وفي اليوم التالي استطاع الفرنسيون أن ينزلوا الجند إلى البر - بعيدا عن معسكر المصريين - وبدأت المناوشات بين الجيشين.
جنود لويس التاسع يدخلون دمياط ويحيلون جامعها كنيسة.
وهكذا بدأت المعركة: الجيش المصري كبير العدد وافر العدة - كما وصفه الفرنسيون أنفسهم - ودمياط على الشاطئ الشرقي مدينة مسورة حصينة قوية قد شحنت بالجند والأقوات والأسلحة؛ لأن السلطان لم ينس أن هزيمتها السابقة إنما كان سببها انعدام الأقوات بعد طول الحصار، فلو أن الأمور سارت سيرا طبيعيا لاستطاع المصريون أن يهزموا هذه الحملة - رغم قوتها وكثرة جندها - ويردوها عن مصر في يسر وسهولة، ولكن الحوادث تطورت تطورا آخر.
فكما أن مؤامرة ابن المشطوب كادت تنزل الهزيمة بالجيش المصري وتوقع الفرقة والاضطراب بين جنوده في عهد الكامل، كذلك جد في حوادث هذه الحملة حادث خطير كاد ينتهي بها إلى نفس النتيجة.
كان السلطان الملك الصالح نجم الدين مريضا - كما ذكرنا - ومقيما في أشموم طناح، وقد اشتد به المرض حتى أصبح على شفا حفرة من الموت، فلما وصلت السفن الفرنسية إلى شاطئ دمياط أطلق الأمير فخر الدين الحمام الزاجل يحمل النبأ إلى السلطان، وتعددت رسائله دون أن يتلقى ردا، فأدرك أن السلطان قد مات، فانتظر حتى وافى الليل وانسحب بجيشه كله من الشاطئ الغربي إلى دمياط، ثم تركها وسار جنوبا متجها إلى معسكر السلطان عند أشموم طناح، وأعمته العجلة فلم يحطم الجسر الذي كان يصل بين الشاطئين الشرقي والغربي فتركه كما هو.
ونظر أهالي دمياط فوجدوا الجيش الذي أتى لحمايتهم قد غادر المدينة، فخافوا على أرواحهم وخرجوا في الليل تاركين مدينتهم وأموالهم وديارهم «ولحقوا بالعسكر في أشموم طناح وهم حفاة عرايا جياع حيارى بمن معهم من النساء والأولاد، وفروا هاربين إلى القاهرة، فأخذ منهم قطاع الطرق ما عليهم من الثياب وتركوهم عرايا.»
ومع أن السلطان كان في أشد حالات المرض فقد غضب على فخر الدين ومن كان معه من القواد غضبا شديدا، وأنبه على فعلته، وأمر بشنق خمسين أميرا من أمراء الكنانية الذين كانوا يتولون الدفاع عن المدينة، وكاد يأمر بقتل فخر الدين نفسه، غير أن الوقت كان حرجا فكتم غيظه إلى أن تنكشف الغمة، وأصبح الفرنسيون فوجدوا معسكر المصريين خلاء فظنوها مكيدة، فأرسلوا كشافتهم يستطلعون، ولشد ما كانت دهشتهم عندما وجدوا الجسر قائما والمدينة خالية تماما من الجنود والأهلين، فعبر الجيش الفرنسي إليها واستولى عليها دون عناء، وفرح بها الفرح كله فقد كانت مشحونة كما ذكرنا بالعتاد والمئونة.
كان الملك لويس يستطيع أن يتقدم في هذه اللحظة نحو الجنوب قبل أن يفيق المصريون من الارتباك الذي حل بهم، ولو أنه اتبع هذه الخطة لكتب له النصر، غير أنه تلكأ في دمياط مدة تقرب من الستة شهور ينتظر وصول بقية سفنه التي جنحت بها الريح نحو شواطئ سوريا، هذه المدة كانت كافية تماما لأن يتم فيها المصريون استعدادهم ويستعيدوا نشاطهم ويجمعوا صفوفهم.
Unknown page