كتاب المحبوب
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي الحمد لله على أفضاله، والصلاة على النبي محمد وآله.
الألفاظ للمعاني بمنزلة المعارض للجواري، فأجمعها لأقسام الجودة، وأنظمها لأحكام الإصابة، وأمشاها في طريق البلاغة والبراعة، وآخذها بحسن السياق ولطف الافتنان في الخطابة، ما شفع إلى المخرج السهل محاسن اللفظ الجزل، وقرن بدقة المعنى واقتضاب البديع، غموض المسلك ولطافة المدخل، وكان متناسبًا في الرقة والسهولة، متشابهًا في حلاوة النسج والعذوبة، بكسوة رشيقة، ودماثة تامة وخلابة تسحر القلب، ورشاقة تملك الأذن، متصل المبادئ بالخواتم لدن المعاطف، فصل من قائله برونق القريحة، ووشي الغريزة، وديباج الطبيعة، يترقرق على أعطافه ماء السلاسة، وتشرق بأطرافه بهجة الطلاوة، فهتك حجاب السمع؛ وسكن سواد القلب غير مستعان عليه بالفكرة، ولا مستخرج الرؤية، ولا مستنبط باعتساف الخاطر ومجاهدة الطبع، وغوص الهواجس، وغور الأفكار، واقتسار أبيه الممتنع، واقتياد عويصه المتوعر، بعيدًا من صنعة التكلف، نزيهًا عن سماجة الاستكراه، سليمًا من وحشة التعقيد. أوله دال على آخره، ومختتمه معرب عن مفتتحه، وأوسطه كطرفه؛ لا اللفظ زائد على معناه فيعد فضولًا وهذرًا، ولا المراد قاصر عنه فيحسب انغلاقًا وحصرًا. بل هما توأمان في وضوح الدلالة، وصواب الإشارة. وردا موردًا واحدًا، وخرجا، في حسن النحت وسلامة السبك وكثرة الماء، مخرجًا فذًا كأنهما الشمس والظل في التقارب، والماء والهواء في التناسب، فعمرا الصدر الخراب بالفائدة؛ وألقحا الطبع العقيم بنتاج الأدب وشحذا الأفكار الكليلة؛ وشفيا الأذهان العليلة؛ وعودا اللسان اعتياد البديهة واللسن! وقدحا في القلب بزناد الفطانة واللقن. وتهجا له التأني لوجوه المنطق. وسهلا له جوانب الكلام والتأنق في اختراع لطيفه وابتداع دقيقه، والتقلب في أفانينه، واستمالة القلوب الشاردة، واستصراف الآذان العازبة بموقعه، واستنجاح المطلب البعيد، واستسهال المغزى الشريد بمسموعه.
وبعد، فأعلق الحديث بالألباب والقرائح، وأليقه بالفطن والطبائع، حتى تفتح الأذن لسماعه بابًا، ويرفع القلب لدخوله حجابًا، ما كان عبارة عن العشق والنسيب، وترجمة عن الهوى والتشبيب، لميل النفوس بأعناقها إليه، وإلقاء القلوب في أزمتها عليه، على تباين النعم والبلدان، وتفاوت الأمزجة والإنسان؛ من ذي جد متورع، وذي خلاعة متبطل، وعامي متبذل، وخاصي متصون، وثكلان بلده كمود الغم، وغضبان أحرقه لهيب الغيط، وأسوان دلهه فوت المطلوب، وبعد المحبوب.
1 / 1
كما افتتحنا به الكتاب، وصدرنا بذكر مقطعات الغزل وأبيات الشعر الشوارد التي تكون في المحافل أجول، وعلى المسامع أدخل، في أوصاف المناظر الحسنة، والوجوه النيرة، والمحاسن الرائعة المعجبة، والصور المليحة الأنيقة، وحسن الخلق، ووسامة التصوير، وصباحة سنة الغرة، واعتدال التركيب، واستقامة التدوير، وسبوطة الشعر، وجثالة الفروع، وجعودة الغدائر واسترسالها على المتون كالأشطان، ووحوفتها وانفتالها في الأصداغ كالصولجان، ونجل العيون، وحور الأحداق وبرج المقل، وكثافة نسج الأهداب، وخلوصها من المره وانغماسها في الكحل، وأسالة الخدود، وبهجة الصفحات كأن الماء يقطر منها، وامتزاج أحمرها بأبيضها، وتورد الوجنات بصبغة الخجل، وتصوب مائها بصفرة الوجل، وتقويس الحواجب، وحلوكة نبات الشعر، وسبوغها إلى مؤخرة الآماق، ودقة تخطيطها كأنها قوادم الخطاف، وانعطاف طرفي القسي الموترة والحنايا المأطورة؛ وتردد الأجفان بين الدلال والتفتير، والغنج والتكسير، كأنها حور الظباء بابليات النظر، أو ربائب الوحش من سرب البقر، وسواد نقط الخيلان على وضح بشرة الوجه، كأنها النكتة السوداء في صفحة البدر، أو بدد تفاريق الغسق على بلج الفجر، أو نقطة الزاج في صفيحة العاج؛ وحمرة العوارض ملونة بخضرة التعذير، كأنها طرار البنفسج على ورقات الورد الجني، أو يورد زهر الربيع الباكر على الغصن الروي، أو آثار المسك على خد الكاعب الرود، أو برد الدجى لاح في الخطوط السود؛ ولعس الشفاه، وصغر تقطيع الأفواه، وأشر الثنايا، وشنب اللثات، وبرد الريق، وعذوبة المذاق، وسلامة النكهة من الخلوف، ورخامة الصوت، ودلال الحديث، وإشراف الأرانب، وقنا القصبات، ولين الأعطاف، وتمايل القدود والقامات، كأنما مالت بها سورة الشراب، وسقاها ربعي الشباب، أو انخنثت من السكر، أو عبثت بها نشوة الخمر؛ واندماج الخصور، ورقة الأوساط، حتى تكاد تنقد هيفًا، وتنبت قضفًا، وعبالة الأكفال، وامتلاء المآزر، وخدالة السوق، وشطانة الأبدان، وري العظام، واكتناز القصب، ودماثة الأكعب، وغموض المرافق وغوص حجمها في ري المعاصم، والمأكمة الرابية، والعجيزة الوثيرة، وثقل تكيفها كالكثيب الرجراج، أو كمتلطم الأمواج، مختومة هذه النعوت بالمختار من فوارد الشعر ومنتخبه الذي يعب فيه الذهن ويلتهمه السمع وتعتزيه النفس في أسباب الهوى، وأحوال الحب، ودواعي العشق، وتباريح الوجد، ولاعج الشجو، والوداد الدائم والمحافظة اللازمة، وعلائق الخلة ونوازع المقة التي تلتحم بها الأحشاء، وتلتبس الأعضاء، وتجري مجرى الدم، وتسري مسرى السم، لا تحول مدى الأيام، ولا تزول طوال الليالي، مخبرة عن صحة العهد، ودوام الوفاء، وصدق المودة، وشدة المحبة، وعزوب الصبر، وتمادي الوله، ولجاج القلب، ومطال الشوق، واستسلام الجوانح لسلطانه، وانقياد الشديد الشكيمة، الأباء للهضيمة، ومبتدأ القلق الذي أوله نظرة، وأوسطه خطرة، وآخره فكرة، وتنوع جنس الحب: من لجاج مكب، وعرض متفق، كما تجلب الشيء البعيد جوالبه، ومستفاد بالنشد والإلف، وكيف يجنيه الطرف، ويتشبث به القلب، ويمتزج بعلائقه الكبد؛ إلى ما يتفرع عليه من وصل وصدود، وإقبال وإدبار، وفرقة وألفة، وقلق وسكون، وتواصل الأحباء، ومراصدة الرقباء، متفننة في جميع جهاتها، ومتفرقة في كل طرقاتها، مستصلحة للحفظ والمذاكرة؛ مرتضاة للملاقاة والمحاضرة، ملتقطة من لفظ الأفواه. فالناس يكتبون أحسن ما يسمعون، ويحفظون أحسن ما يكتبون، وينشدون أحسن ما يحفظون. فهي عريقة في الاختيار مرات، عائدة من جهات بإيناس المستوحش، وعمارة المجلس، وتلهية القلب، ونفي الوحدة، وتعلة النفس، وتسلية العزب الوحيد، والمستهام العميد.
1 / 2
وعقيبها الفصل الثالث في أوصاف الربيع، وإيماض برقه، ونشر سحائبه، وجلجلة رعده، وسقوط قطره، وفترة نسيمه، وسجسج هوائه، وانعطاف قوسه وسط الغمام أخضر بجنب أحمر إلى أصفر، كما تظاهرت العروس بين جلابيبها وبعض الذيل أصر من بعض، أو كما عقدت الكاعب الرود أسورتها على معصمها من مصوغ ذهب إلى منظوم زبرجد بينهما معقود ياقوت؛ وهبوب الرياح على وجوه الغدران ومسحها أقذاءها كأنها ماوية مصقولة، أو مرآة مجلوة، وعصفة الشمال بالسواقي ممتدة على استواء كأنها حية تسعى أو صفيحة الحسام المسلول؛ وتدريجها متونها حزوزًا كمتون المبارد، أو حلقًا كمراقد الأساود؛ وأنواع الأزاهير وصنوف الرياحين، وكيف يتضمخ الجو من عرفها، وتتضوع المسارب بأرجها؛ وانفتاق الأنوار من أكمامها، وخروجها من أغطيتها إلى مسرى هيجها على ظواهر الأرض، وأوان جفوفها بضواحي الجلد، وحين يبسها بأشراف الجبال ومتون الأقبال؛ وذبول نضارتها، وتصوح بهجتها، وعودها هشيمًا تذروه الرياح، وتنسفه الأرجل مختومًا بمشموم الطيب من المسوك والعنابر والكوافير والأعواد والغوالي، وذكر حقائق اشتقاقها وشواهدها من العربية، وحصر أسمائها وإيراد ما صرفته الشعراء من معانيها.
وبعده الفصل الرابع في نعت الخمور وعد أساميها وتحقيق اشتقاقها وموضوعاتها وأبنيتها ولغاتها، والأمثال المضروبة بها، وصفات أحوالها من مبتكر الأمثال، وتوريق كرومها وتعريشها على الدعائم وشدها بالقوائم، ثم اخضرار أوراقها، وتهدل أفنانها، وتفنن شعبها، وانعقاد حباتها، وإيناع ثمراتها، وتدلي أعنابها، وتساقط قضبانها، موقرة دوالح بأحمالها مكتنزة عناقيدها، هوادل بأثقالها كما احتبى الزنج في الأزر الخضر، أو تعرض الثريا في أزرق الفجر؛ إلى أن تنبذ في الخوابي، وتسلم إلى الظروف، وتودع الأوعية، نصب عين الشمس، فيطبخها حمي الهواجر، ويصفيها لفح السمائم بالظهائر، فتستوعب قوتها، وتستوفي حولها وشدتها، حتى يجتليها السقاة في معارض الأقداح، وتحثها ركبًا على مطايا الراح، قهوة حمراء في زجاجة بيضاء عذراء من حلب الأعناب بمزاج حلب السحاب، فينتظم بها شمل السرور ويتجنب حماها طوارق المحذور.
الباب الأول
أوصاف الشعر
قال بكر بن النطاح:
بيضاء تسحب من قيامٍ فَرعَها ... وتضِلُّ فيه وهو وحفٌ أسحمُ
فكأنَّها فيه نهارٌ ساطعٌ ... وكأنه ليلٌ عليها مظلمُ
المعوج الشامي:
وفي أرجورانيِّ الغلالة شادنٌ ... لباسُ الدجى من عُذْره وغدائرهْ
له لحظاتٌ فاتراتٌ يكُرُّها ... بفترة أحوى فاتن الطرفِ فاترهْ
فلا غمد إلاّ من سوادِ جوانحي ... ولا سيف إلاّ من بياض محاجرِهْ
دعبل بن عليِّ الخزاعيِّ:
أما في صروف الدهر أن ترجع النوى ... بهم ويُدالَ القرب يومًا من البعدِ
بلى في صروف الدهر كلُّ الذي أرى ... ولكنَّما أغْفَلْنَ حظّي على عمدِ
فواللهِ ما أدري بأيِّ سهامها ... رَمتْني، وكلٌ عندنا ليس بالمُكْدي
أبا لْجيدِ أمْ مجرى الوشاح؟ وإنني ... لأِتْهم عينيها مع الفاحمِ الجعدِ
عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
سَبَتْهُ بوَحفٍ في العِقاصِ كأنَّه ... عناقيدُ دلاَّها من الكَرْمِ قاطِفُ
أسيلاتُ أبدانٍ دقاقٌ خُصورها ... وَثيراتُ ما الْتفَّتْ عليه الملاحِفُ
ابن الرومي، وأحسن في بسطه ووصفه:
وفاحمٍ واردٍ يقبِّلُ مَمْ ... شاهُ إذا اخْتالَ مُرسلًا غُدُرَهْ
أقبل كالليل من مَفارِقِهِ ... مُنحدرًا لا يذُمُّ مُنحدرهْ
حتى تناهى إلى مواطِئِهِ ... يَلثِمُ من كلِّ موْطئٍ عَفَرَهْ
كأنَّه عاشقٌ دَنا كَلَفًا ... حتى قضى من حبيبه وَطَرهْ
وعبد الله بن المعتز وارده في هذا المعنى حيث قال:
فلّما أنْ قضتْ وَطرًا وهمَّتْ ... على عَجَلٍ لأخذٍ للرِّداءِ
رَأتْ شخص الرقيب على تدانٍ ... فأسبَلتِ الظَّلامَ على الضياءِ
فغاب الصبحُ منها تحت ليلٍ ... وظلَّ الماءُ يَقطُرُ فوقَ ماءِ
والمتنبي منه أخذ قوله:
دعتْ خلاخيلُها ذَوائبَها ... فجِئنَ من قَرْنِها إلى القدمِ
وقوله:
وَمَن كلَّما جَرَّدْتُها من ثيابها ... كساها ثيابًا غَيْرَها الشَّعَرُ الوَحْفُ
1 / 3
وابن الرومي وابن المعتز أخذاه من قول أبي نواس:
بانوا وفيهمْ شُموسُ دَجْنٍ ... تَنْعَلُ أقدامها القرونُ
تعومُ أعجازُهُنَّ عوْمًا ... وتَنثني فوقها المتونُ
وأبو نواس أخذه من ذي الرمة حيث قال:
إذا انْجرَدَتْ إلاَّ من الدِّرع فارْتدتْ ... غدائرَ مَيَّال القُرونِ سُخامِ
وأخذه ذو الرمة من الأعشى حيث قال:
إذا جُرِّدَتْ يومًا حَسِبْتَ خَميصَةً ... عليها وجِرْيالَ النضيِر الدُلامِصا
حمزة البكري:
قامَتْ تُريكَ ابنةُ البكريِّ ذا غُدُر ... يُستمطرُ البانُ منها واليَلَنْجوجُ
وَحْفٌ مَنابِتُه رَسْلٌ مَساقِطُه ... مُحلَوْلَكُ اللونِ غِربيبٌ ودَيْجُوجُ
اليعقوبي:
جُعودةُ شعرِها تَحكي غديرًا ... تُصَفِّقُهُ الجنوبُ على الشمالِ
ابن لنكك:
هَلْ طالبٌ ثأرَ من قد أهدرَتْ دمَهُ ... بيضٌ عليهِنَّ نَذْرٌ قَتْلُ من عشِقا
من العقائلِ ما يَخْطِرنَ عن عُرُضٍ ... إلاَّ أرَيْنَكَ في قدٍّ قَنًا ونَقا
رَواعفٌ بخدودٍ زانَها سَبَجٌ ... قد زَرْفَنَ الحُسنُ في أصداغِها حَلَقا
نواشرٌ في الضُحى من فَرِْعها غَسقًا ... وفي ظلامِ الدُجى من وجهها فَلَقا
أَعَرْنَ غيدَ ظِباءٍ رُوِّعِتْ غَيَدًا ... والورْدَ تَوْريدَ لونٍ، والَمها حَدَقا
المتنبي:
كَشفتْ ثلاثَ ذوائبٍ من شعرِها ... في ليلةٍ فأَرَتْ لياليَ أرْبَعا
واستقْبلتْ قمرَ السماءِ بوجهِها ... فأَرَتْنِيَ القَمَريْنِ في وقتٍ معا
ابن دريد:
غَرَّاءُ لوَجَلتِ الخدودُ شُعاعها ... للشمس عند طُلوعها لم تُشْرِقِ
غُصنٌ على دِعْصٍ تبدَّى فوقَه ... قمرٌ تألَّق تحت ليلٍ مُطْبِقِ
لو قيل للحُسْن: احْتكم لم يَعْدها ... أو قيل: خاطِبْ غيرها لم يَنْطِقِ
فكأنَّنا من فَرْعِها في مَغرِب ... وكأننا من وجهها في مَشْرِقِ
تبدو فيهتفُ بالعيون ضياؤُها ... الويلُ حلَّ بمقلةٍ لم تُطبقِ
الخليع:
وَمُبْتَسِمٍ إليَّ من الأقاحي ... وقد لبسَ الدُجى فوقَ الصباحِ
ثَنى زُنَّارَهُ في دِعْصِ رملٍ ... على خُوطٍ من الرَيْحان ضاحِ
له وجهٌ يَتِيهُ به وعيٌن ... يُمَرِّضُها فيَسْكِرُ كلَّ صاح
المتنبي:
كلُّ خُمصانةٍ أرَقَّ من الَخْم ... ر بقلبٍ أقسى من الَجْلُمودِ
ذاتُ فَرْعٍ كأنما ضُرِبَ العَنْ ... برُ فيهِ بماءِ وَرْدٍ وعودِ
حالِكٍ كالغُدافِ جَثْلٍ دَجو ... جِيٍ أثِيثٍ جَعْدٍ لا تجْعيدِ
تحمِلُ المِسكَ عن غَدائِرها الري ... حُ وتفْتَرُّ عن شَتيتٍ بَروُدِ
أبو دلف:
حَسُنَتْ واللهِ في عيْ ... ني وفي كلِّ العيونِ
قَيْنَةٌ بيضاءُ كالفَّض ... ةِ سوداءُ القُرونِ
أقْبَلَتْ مُختالة بي ... نَ مَهًا حُورٍ وعينِ
لم يُصبْها مرضٌ يَنْ ... هَكُ إلاَّ في الُجفونِ
المتنبي:
لَبسنَ الوَشيَ لا مُتَجَمَّلاتٍ ... ولكنْ كي يَصُنَّ به الجَمالا
وضَفَّرنْ َالغدائِرَ لا لِحُسْنٍ ... ولكنْ خفْنَ في الشَّعْرِ الضَلالا
ذو الرمة:
هِجانٍ تَفُتُّ المسكَ في مُتَناغمٍ ... سُخامِ القرونِ غيرِ صُهْبٍ ولا زُعْرِ
وتُشعرُهُ أعطافَها وتَشُمُّه ... وتمسحُ منه بالتَرائب والنحْرِ
لها سُنَّةٌ كالشمسِ في يومِ طَلْقَةٍ ... بَدت من سحابٍ وهي جانِحةُ العَصْرِ
وقال الشماخ، وأنشدوه في أبيات المعاني:
دارُ الفتاةِ التي كُنَّا نقولُ لها ... يا ظبيةً عُطُلًا حُسَّانةَ الجيدِ
تُدْني الحمامةُ منها وهي لاهيةٌ ... من يانِعِ الكَرْم قِنْوانَ العَناقيدِ
الباب الثاني
الأصداغ
قال ابن المعتز:
ريمٌ يتيهُ بِحُسنِ صُورتهِ ... عَبَثَ الفُتورُ بِلحظِ مُقلتهِ
وكأنَّ عَقْربَ صُدغه وقفتْ ... لمّا دَنَتْ من نارِ وجْنَتهِ
ولقد أحسن فيه. إلا أنه ألم بقول العرب، أنشده ابن السكيت:
وكأني شَبْوةٌ عندَ الصُدودِ
أي كأني، في صدودي عن النار، العقرب، لأنها لا تقربها.
وكذلك قوله في صفة الهلال:
1 / 4
ولاحَ ضوءُ هلالٍ كادَ يَفْضَحُهُ ... مِثلَ القُلامةِ قد قُصَّتْ من الظُفُرِ
أخذه من قول جميل، أنشده الأصمعي:
كأنَّ ابْنَ مُزْنَتِها جانِحًا ... فَسيطٌ لدى الأُفقِ من خِنْصِرِ
أبو مسلم الرستمي:
وبنَفْسي من إذا جَمَّشتُهُ ... نَثَرَ الوردُ عليه وَرَقهْ
وإذا مسَّت يدي طُرَّتهُ ... أُفْلتَتْ منها فعادتْ حَلَقَهْ
لم أزَلْ أحرِسُ قلبي جاهدًا ... من لُصوصِ الحُبِّ حتى سَرَقهْ
المعوج الشامي:
صَوالِجُهُ سودٌ مُعطَّفةُ العُرى ... تَمايلُ في مَيدان خَدٍّ مُضَرَّجِ
ترى خدَّه المصقولَ والصُّدُغُ فوقَه ... كَوردٍ عليه طاقةٌ من بَنَفْسَجِ
الرقي:
أبدًا نحنُ في خلافٍ فَمنِّي ... فرطُ حُبٍ، ومنكَ لي فرطُ بُغضِ
فَتْلُ صُدغيْكَ فوقَ خطِّ عِذارٍ ... ظُلماتٌ، وبعضُها فوقَ بعضِ
آخر:
ومُستبيحٍ لقتلي ... ما إنْ يُمرُّ ويُحْلي
سِنوهُ خمسٌ وعشرٌ ... كالبدرِ عندَ التَجَليِّ
مُصَحِّحِي حينَ يدنو ... وفي التنائي مُعلىِّ
ما شَوَّشَ الصُدغَ إلاَّ ... لِكيْ يُشوِّشَ عقليِ
السروري:
وَذي دلالٍ كأنَّ طُرَّتَهُ ... بُستانُ حُسنٍ بالزهرِ مَنْقوشُ
ورَوْضةُ الياسميِن عارِضُهُ ... وهو بلحْظِ المحبِّ مخدوشُ
والدُرُّ في ثغرهِ منابِتُهُ ... والمسكُ في عارضيْهِ مَفروشُ
وقد زَها في قضيبِ قامَتِهِ ... عُنقودُ صُدغٍ عليهِ مَعروشُ
آخر:
لامسَّ جِسمكَ، بل وُقِّيتَ بي أبدًا ... ما مسَّ جسميَ من تفتير عيْنيْكا
قلبي وصُدغُكَ لم يحرقْهُما لَهبٌ ... كِلاهما احْتَرقا من نارِ خدَّيْكا
العلوي:
وعهدي بالعَقاربِ حيَن تَشْتُو ... تُخَفِّفُ لَدْغَها وتَقلُّ ضُرّا
فما بالُ الشتاءِ أتى وهذي ... عقاربُ صُدغهِ تزدادُ شرّا
ابن المعذل:
ومُتَّخذٍ على خَدَّي ... هِ من أصداغهِ حَلَقا
يكادُ يذوبُ حين نُدي ... رُ في وجَنَاتهِ الحَدَقا
إذا جَمَّشْتَه باللَّحْ ... ظِ بُلَّ جبينهُ عَرَقا
كشمسِ الأفقِ آخذَةٌ ... على أبْصارنا الطُرُقا
آخر:
غِشاءُ خَدَّيهِ جُلَّنارُ ... وَوجههُ الشمسُ والنّهارُ
أطوفُ حيرانَ في هواهُ ... يُديرُني لَحْظُهُ المُدارُ
كشاجم:
حُورٌ شَغَلنَ قلوبَنا بفراغِ ... ورسائلٌ قصَرتْ عن الإبْلاغِ
ومَنعْنَ وردَ خُدودهِنّ فلم نُطِقْ ... قَطْفًا لها لعقاربِ الأصداغِ
أبو فراس:
ومُرْتَدٍ بِطُرَّةٍ ... مُرسَلَةِ الرَفارِفِ
مُسَبلةٍ كأنَّها ... من زَرَدٍ مضاعفِ
خالد، ووجدتها في ديوان ابن المعتز:
دَعْني فما طاعَةُ العُزّالِ من ديني ... ما سالمُ القلب في الدُنيا كَمَفْتونِ
أيْقنتُ أنِّيَ مجنونٌ بِحُبِّكُمُ ... وليس لي عندكم عُذرُ المجانينِ
ذو طُرَّةٍ نَظمتْ في عاج جَبهته ... من شَعْرِهِ حَلَقًا سودَ الزَرافيِن
كأنَّ خطَّ عذارٍ فوقَ عارِضهِ ... ميدانُ آسٍ على وردٍ ونِسرينِ
ابن المعتز:
بَخيلٌ قد شَقيتُ بهِ ... يُكدُّ الوعدَ بالحُججِ
على بُستان خدَّيْهِ ... زَرافينٌ من السَّبَجِ
آخر:
أمِنْ سَبَجٍ في عارضيْه صَوالجٌ ... مُعَطَّفةٌ تُفاحَ خدَّيهِ تَضربُ
وما ضرَّهُ نارٌ بخدَّيهِ أُلْهبتْ ... ولكنْ بها قلبُ المحبِّ يُعذَّبُ
عناقيدُ صُدغيْهِ بخدِّيهِ تَلتوي ... وأمواجُ رِدْفيهِ بخصريْهِ تلعبُ
شَربتُ الهوى صِرفًا زُلالًا وإنما ... لواحِظُه تَسْقي وقلبِيَ يشربُ
ابن المعتز:
حُشِيَت عَقاربُ صُدغهِ ... بالمسكِ في خدَّيه حَشْوا
أبو تمام:
لمَّا اسْتَتَمَّ ليالي البدرِ من حِججٍ ... فوَّقَ السَّهمَ من عينيهِ في المُهجِ
وهزَّ أعلاهُ من حِقْويهِ أسفلُهُ ... واخضَرَّ شاربُهُ واجتحَّ بالحُججِ
بَدا يُعرضُ بالتجميشِ فامتزجتْ ... منه الملاحَةُ بالتكريرِ والغنجِ
1 / 5
كأنّ طُرَّتَهُ في عاجِ جبهتهِ، ... إذا تأمَّلْتَهُ، عِقْدٌ من السَبَجِ
ابن المعتز:
في خدِّه عقاربٌ ... مَحشُوَّةٌ بالغالِيهْ
شائِلةٌ أذنابها ... حُماتُهُنَّ قاضيَهْ
تَلسَعُني إذا بَدا ... وجسمُه في عافيهْ
الخباز البلدي:
ذو ظُرَّةِ كمثل ما ركُبِّ َفي ... صفيحةِ الفضَّة شبّاكُ سَبَجْ
وعارضٍ كالماء في رقَّتهِ ... تُزهر فيه وجنةٌ ذاتُ بهجْ
كأنما نسَّاج ديباجتهِ ... من وَرق النِسرينِ والوردِ نسجْ
ابن المعتز:
عيَّروا عارضه بال ... مسكِ في خدٍّ أسيلِ
تحتَ صُدغين يُشيرا ... نِ إلى وجهٍ جميلِ
الصنوبري:
للدَلَّ فيهِ عجائبُهْ ... للشَّكلِ فيهِ غرائبُهْ
للحُسنِ فيهِ شمسهُ ... وهلالهُ وكواكبُهْ
ولصُدغهِ في خدَّهِ ... حَرْفٌ تَنَوَّقَ كاتبُهْ
ظبيٌ يصيحُ عِذارُه ... يا غافليَن وشاربُهْ
وله أيضًا:
مُتَبسِّمٌ كافورُ عارضِهِ ... عن صُدغِ مسكٍ إنْ دنا نَفَحا
مُنْضَمُّ وردِ الخدِّ أوْلَ ما ... يَبدو، فإنْ جَمَّشْتَهُ انْفَتَحا
الباب الثالث
مدح العذار وذمه
التمار الواسطي:
أَرضى صبابَتَه ولَّما تُرضِهِ ... فَقَضى بها ومُرادَهُ لم يَقْضِهِ
أَهدى إليهِ الُحبُّ فترةَ جَفْنِهِ ... عَمدًا، كما استهداه صِحَّةَ غُمْضِهِ
غُصنٌ تَفَتَّحَ نَوْرُهُ في فرعِهِ ... أَوفى بمُسْوَدٍّ على مُبْيَضِّهِ
فكأنَّ نَبْتَ عِذارِهِ في خدِّهِ ... وردٌ تعلَّقَ بعضُهُ في بعضِهِ
مثل البيت قول البرقعي:
ولاحَظَني بأجفانٍ مِراضٍ ... وإِيماضٍ يُخالَسُ باغْتِماض
ومِنْ فَتْلِ العبيرِ بعارضيه ... سوادٌ قد تَزَرْفَنَ في بَياض
أناف عليَّ مُكْتَحِلًا غماضًا ... قأرَّقَ ناظِريَّ عن اغْتِماض
أتعجبُ من فرائسِ أُسْدِ غابٍ ... ونحن فَرائِسُ المُقَلِ المِراض
ابن كيغلغ:
وكاسبِ آثامٍ يُجيلُ بَنانَه ... على زَعفَراناتٍ يُلَقَّبْنَ بالشَّعرِ
فما دُرَّةُ الغواصِ في نَحرِ كاعِبٍ ... ولا الغُصُنُ الميَّالُ في الورقِ الخضرِ
بِأحسنَ منه إذا بدا مُتَلَثِّمًا ... بِفضلِ عِذارٍ خُطَّ في صَفْحَتَيْ بَدرِ
ماني الموسوس:
وما غاضَتْ محَاسِنُهُ ولكنْ ... بماءِ الحُسْنِ أورَقَ عارِضاهُ
سَمِعْتَ بهِ فَهِمْتَ إليهِ شوقًا ... فكيفَ لكَ التَصبُّرُ لو تراهُ
أبو فراس:
يا مَن يلومُ على هواهُ سَفاهةً ... انظُرْ إلى تِلكَ السوالِفِ تَعْذُرِ
حَسُنَتْ وطابَ نسيمُها فكأنّها ... مِسكٌ تساقَطَ فوقَ وردٍ أحمرِ
آخر:
يقولونَ قد أَخفى محَاسنَه الشَّعرٌ ... وهيهاتَ أنِ يَخْفى مع الظُلْمةِ البَدرُ
وأَحسَنُ ما يَبْدو لكَ الغُصنُ ناضِرًا ... إذا لاحَ في أَطرافِهِ الوَرَقُ الخُضْرُ
ابن المعذل:
سالَتْ مَسايلُ عارضَيْ ... هِ بَنَفْسجًا في وَرْدِهِ
فكأنَّه مِن حُسنِهِ ... عَبَثَ الرَبيعُ بخدِّهِ
ابن المعتز:
لا تَحْسُنُ الأرضُ إلاَّ عند زَهْرَتِها ... ولا السَماواتُ إلا بالمَصابِيحِ
كذاكَ خَدُّكَ، لمّا اخضَرَّ عارِضُهُ، ... تَصَرَّحَ الحسنُ فيه أَيَّ تَصْريحِ
الصنوبري:
صاحَ عِذاراهُ بي وشارِبُهُ ... قُمْ فَتَأمَّلْ فأَنتَ صاحِبُهُ
إنْ كان بَدرُ الدُجى يُشاكِلُهُ ... فما لِبَدْرِ الدُجى مناقِبُهُ
لا وَجنتاهُ لهُ، ولا فَمُهُ، ... ولا له عيْنُهُ وحاجِبُهُ
ذاكَ الذي طالَبَتْ محَاسِنُهُ ... بِوصْلِهِ من غَدا يطالِبُهُ
ابن لنكك:
قالوا الْتحى فَمحا مَحا ... سِنَ وَجههِ لِبْسُ الشَعَرْ
ألآنَ طابَ وإِنّما ... ذاكَ البهارُ على الشَجَرْ
لَولا سوادٌ في القَمرْ ... واللهِ ما حَسُنَ القَمرْ
الخليع وأحسن فيه:
اخضرَّ عارِضُه ولاحَ عِذارُهُ ... والبدرُ ليسَ يَشينُه آثارُهُ
لولا اخْضِرارُ الروضِ لم يكُ نُزهةً ... لمَّا تَضاحَكَ وَردُه وبَهارُهُ
1 / 6
والسيفُ لولا خُضرةٌ في مَتْنه ... ما كانَ يُعْرَفُ عِتقُهُ ونِجارُهُ
وَيزينُ تُفَّاحَ الخُدودِ عِذارُه ... والثوبُ يَعرِفُ أَرْشَهُ سِمسارُهُ
البسامي:
مالَهُم أَنْكروا سَوادًا بخدَّيْ ... هِ ولا يُنكرونَ ورْدَ الغُصونِ
إن يَكُنْ عَيبُ وجهِهِ بَدَدَ الشَّع ... رِ فعيبُ العيونِ سودُ الجُفونِ
الخبزرزي:
وحُسنٍ يُنَمْنِمُ ذاكَ العِذارَ ... كآثارِ مِسكٍ عليهِ غَزَلْ
كتابٌ من الحُسنِ توقِيعُهُ ... من اللهِ في خَدِّهِ قد نَزَلْ
ابن المعتز:
وَتكادُ الشمسُ تُشبِهُهُ ... ويكادُ البدرُ يَحْكِيهِ
كيفَ لا يَخْضَرُّ عارِضُهُ ... ومِياهُ الحُسنِ تَسْقِيهِ
محمد بن وهيب:
صُدودُكَ والهوى هَتكا سِتاري ... وساعَدها البُكاءُ على اشْتِهاري
وكم أَبْصَرتُ من حسنٍ ولكنْ ... عليكَ، لِشِقْوتي، وَقَعَ اخْتياري
ولم أَخْلَعْ عِذاري فيكَ إلاَّ ... لِما عايَنْتُ من خَلْعِ العِذارِ
الخبزرزي:
انظرْ إلى الغُنْجِ يَجري في لَواحِظِهِ ... وانظُرْ إلى دَعَجٍ في طَرْفِه الساجي
وانظُرْ إلى شَعَراتٍ فوقَ عارِضِهِ ... كَأَنَّهُنَّ نِمالٌ دَبَّ في عاجِ
الوأواء:
ولمّا حَوى نِصفَ الدُجى نِصفُ خدِّهِ ... تَحَّيرَ فيهِ ما دَرى أينَ يذهبُ
ابن المعتز:
له مُقلةٌ تَسبي العُقولَ ووجنةٌ ... تَفَتَّحَ فيها الوردُ من كلِّ جانِبِ
وسالَ على خدَّيْه خَطُّ عِذارِهِ ... كما أَثَّرَ التَسطيرُ في رَقِّ كاتِبِ
الخبزرزي:
وَجهٌ تكامَلِ حُسنُهُ ... لماَّ تَطَرَّفَهُ عِذارُهْ
والسيفُ أحسنُ ما يُرى ... ما كانَ مُخْضَرًّا غِرارُهْ
غُصْنٌ شَقِيتُ بِزَرْعِهِ ... فالآنَ حين بَدَتْ ثِمارُهْ
عَطَفَ الوُشَاةُ فروعهُ ... عنّي وفي قَلبي قَرارُهْ
ابن كيغلغ:
مُهَفْهَفٌ كالقَضيب قامَتُهَ ... أقامَ سوقَ القُدودِ إِذْ قاما
يُفْطِرُ طَرْفي إِذا رَأَيْتُ لهُ ... شَخصًا، فإِنْ غابَ شَخْصُهُ صاما
قد قَبَّلَ الوردُ فوقَ عارِضهِ ... فَخطَّ فيهِ سَوادُهُ لاما
الصنوبري:
كم تَحرَّى قَتْلي ولمْ يَتَحرَّجْ ... مَنْ ضَمِيري بِنارِ حُبِّيهِ مُنْضَجْ
رَشَأٌ يَقْتَضي الغرامَ فؤادًا ... مُلْجِمًا للغرامِ والشوقُ مُسْرَجْ
رَوضٌ حسَنٍ تَنَزَّهُ العينُ فيهِ ... في مُوشىَّ مُستَحْسَنٍ ومُدَبَّجْ
يا مُذِيبِي بِخالِهِ اللاَّزوَرْ ... دِيِّ على خَدِّهِ الصَقِيل المُضَرَّجْ
هذه زهرةُ البَنَفْسج في خدِّ ... كَ أَمْ زهرةٌ تَفوقُ البَنَفسجْ
كانَ نُعمانُ من نَعِيمِيَ لو لمْ ... يَكُ رأَسِي بِتاجِ شَيْبِي مُتَوَّج
كشاجم:
مُهَفْهفُ الأَعطافِ مُرْتَجُّ الكَفَلْ ... مُكَحَّلُ الأَجفانِ من كُحْلِ الكَحَلْ
طُوِّقَ في الخدِّ كتَطويقِ الحَجَلْ ... بعارضٍ مُنقَطِعٍ لم يَتَّصِلْ
يُنْبِتُهُ الحُسنُ وتَرعاهُ المُقَلْ
وفي هذا المعنى قول ديك الجن حسن:
يَلوحُ في خدِّه وردٌ على زَهَرٍ ... يعودُ من وَقتِهِ غَضًّا إذا قُطِفا
الصنوبري:
إِنَّ الذي اسْتَحْسَنْتُ فيه خَلاعتي ... وخَلَعْتُ فيه تَنَسُّكِي وتَحرُّجي
زَيْنُ الشُنوف وَزِينَةُ ال ... خَلخالِ إنْ حلَّيتَه والدُمْلُجِ
شَبَّهتُ حُمرةَ خدِّهِ وعِذارَهُ ... بِنِقابِ وَردٍ مُعْلَمٍ بِبَنَفْسَجِ
الواثق بالله؛ الصحيح أنها لأبي تمام:
لما اسْتَقَلَّ بأَردافٍ تُجاذِبُهُ ... واخْضَّر فوقَ جُمان الدُرِّ شارِبُهُ
وتَمَّ في الحُسن فالْتامَتْ مَحاسِنُهُ ... واهتزَّ أَعلاهُ وارتجَّتْ حقائبُهُ
كلَّمتُه بُجفونٍ غيرِ ناطِقةٍ ... فكان مِن رَدِّه ما قالَ حاجِبُهُ
والمحدثون قد أكثروا في هذا الفن. وإنما نقصد المختار في الكتاب كله - ولكل شيء صناعة؛ وصناعة العقل حسن الاختيار. والناس متفاوتو الأغراض فيه - ولكل غرض مذهب أبو حنيفة الغساني مؤدب أبي نواس أنشده ابن المنجم في البارع:
1 / 7
بأَبي وَجْهُكَ من مُحْتَلَقٍ ... حارَ ماءُ الحُسْنِ فيه فَوَقَفْ
إِنْ يَكُنْ أثَّرَ في عارِضِهِ ... بَدَدُ الشَّعرِ فَفي البدْرِ كَلَفْ
في ذم العذار
سعيد بن وهب، أنشده أبو عثمان الجاحظ في كتاب الحيوان:
هلاّ وأنتَ بماء وجهكَ تَشتهي ... رؤدَ الشباب قليلَ شعرِ العارضِ
فالآنَ، حين بدتْ بخدِّكَ لِحيةٌ ... ذهبتُ بِمِلْحِكَ ملءَ كفِّ القابضِ
مثلَ السُلافةِ عاد خمرُ عصيرِها ... بعدَ الَّلذاذةِ خلَّ خَمْرٍ حامِضِ
آخر:
غابوا وآبوا وفي وُجُوهِهِمُ ... كما يكونُ الكسوفُ في القمرِ
مَاتوا فلم يُقْبَروا فَيُحْتَسَبُوا ... فَفِيهمُ عِبرَةٌ لمُعْتَبِر
كأنَّهمْ بَعدَ بَهْجَةٍ دَرَسَتْ ... رَكْبٌ عليهمْ عمائِمُ السَفَرِ
أبو هفان:
غَيَّرَهُ الكونُ والفسادُ ... ولاحَ في وجْهِهِ السَوادُ
كأنْه دِمْنَةٌ امَّحَتْ ... فكُلُّ آثارِها رَمادُ
ابن المعتز:
أَلْبسكَ الشَّعُر على رَغمي ... غلالةً تُغسلُ بالخَطْمي
قد كنتُ أدعوكَ: بيا سيِّدي ... فصِرتُ أدعوكَ: بيا عَمِّيَ
وله أيضًا:
يا ربِّ إِن لمْ يكنْ في وَصلِه طمعٌ ... ولم يكنْ فرجٌ من طولِ هِجرتهِ
فاشْفِ السَّقامَ في لحظِ مُقلَتِهِ ... واسْتُرْ مَلاحةَ خدَّيْه بلحيتهِ
ابن المعذل:
سَقيًا لدهر مضى ما كان أَطيَبَهُ ... إِذ أنتَ مُتَّبعٌ والشرطُ دينارُ
أيّامَ وجهُكَ مُبيَضٌّ عوارِضُهُ ... وللربيعِ على خَدْيْكَ أَنوارُ
حانَتْ مَنيَّتُهُ واسْوَدَّ عارِضُهُ ... كما تُسَوَّدُ بعدَ الميِّتِ الدارُ
الصنوبري:
أُخمِدَ الحُسنُ فيكَ بعد اتِّقادِ ... واكْتسى عارِضاكَ ثَوبَيْ حِدادِ
ما بَدتْ شَعْرةٌ بِخدِّكَ إِلاَّ ... قُلتُ في ناظرِي بَدتْ أو فُؤادي
أَنتَ بدرٌ جَنى الكُسوفُ عليهِ ... ظُلمةً ما أَرى لها مِن نَفَادِ
واسْوِدادُ العِذارِ بعد ابْيِضاضٍ ... كابْيِضاضِ العِذار بعد اسْوِدادِ
ديك الجن:
لو نَبتَ الشَّعْرُ في وِصالٍ ... لَعادَ ذاكَ الوِصالُ صدَّا
الخبزرزي:
بَدا الشعرُ في وجْههِ فاْنتَقَمْ ... لِعُشاقِهِ مِنهُ لمّا ظَلَمْ
وما سلَّطَ اللهُ نَبْتَ اللِّحى ... على المُرْد أَلا زوالَ النّعمْ
تَوحَّشَتِ العينُ في وجههِ ... وحَقَّ لها وحَشةٌ في الظُلَمْ
ولم يَعلُ في وجههِ كالدُّخا ... نِ إِلاَّ وأسفَلُه كالحَمَمْ
إذا اسودَّ فاضِلُ قِرطاسهِ ... فما ظَنُّهُ بمجاري القَلَمْ
الباب الرابع
نعت الخيلان
محمد بن عبد الرحمن الكوفي:
خالٌ كنُقطةِ زاجِ ... على صَفِيحة عاجِ
العباس بن الأحنف وقد قرأتها في ديوان ديك الجن. والعباس أولى بها:
ومَحجوبةٍ في الخِدرِ عن كُل ناظرٍ ... ولو بَرَزَتْ ما ضلَّ بالليل مَن يَسري
يُقَطِّعُ قلبي حُسنُ خالٍ بخدِّها ... إِذا سَفَرَتْ عنهُ تَنَغَّمَ بالسِحْر
لخالٌ بذاتِ الخال أَحسنُ مَنظرًا ... من النُقْطةِ السوداءِ في وَضَحِ البدْرِ
وقال عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي:
كأن نقطةٌ بِمِسكٍ ... لائحةٌ في بياضِ عاجِ
مسلم بن الوليد:
خَرَجْنَ خروجَ الأنجُم الزُهرِ فالتقى ... عليهنَّ منهنَّ الملاحةُ والشَكْلُ
وخالٌ كخالِ البدرِ في وجه مِثلهِ ... لَقيتُ المُنى فيه فحاجزَنا البَذلُ
ديك الجن:
في خَدِّه خالٌ كأنَّ ... أنامِلًا صَبَغتهُ عَمْدا
خَنِثٌ كأَنَّ الله أَلْ ... بسَهُ قُشورَ الدُرِّ جِلْدا
وتَرى على وَجَناتِهِ ... في أيِّ حينٍ جِئتَ وَرْدا
أبو هفان:
مَلِيحُ الدَلِّ والحَدَقَهْ ... بَديعٌ والَّذي خَلَقَهْ
له صُدغانِ من سَبَجٍ ... على خَدَّيْهِ كالحَلَقَهْ
وخالٌ فوقَ وجنتِهِ ... يُقَطِّعُ قلبَ من عَشِقَهْ
أُلاحِظُهُ فأُدْمِيهِ ... فأَتركُ لَحظَهُ شَفَقَهْ
وقال الصنوبري:
بالحَلَقِ المُستديرِ من سَبَج ... على الجَبينِ المَصُوغِ مِن دُرِّ
1 / 8
وحاجبٍ خَطَّ سطرَه قلمُ ال ... حُسن بِحبْرِ الإِلهِ لا الحِبرِ
والخالِ في الخدِّ إِذ أُشَبِّهُهُ ... زَهرةَ مِسكٍ على ثَرى تِبْرِ
وأُقحوانٍ بِفيكِ مُنتظمٍ ... على شَبيهِ الغَديرِ من خَمْرِ
آخر:
في الساعِدِ الأَيمن خالٌ لهُ ... مِثلُ السُويْداءِ على القَلبِ
كأنهُ من سَبَج فاحِمٍ ... مُرَكَّبٍ في لُؤْلُؤٍ رَطْبِ
كشاحم:
فَديْتُ زائرةً في العيد واصِلةً ... لِمُسْتهامٍ بها لِلوصْلِ مُنْتَظِرِ
فلم يزلْ خَدُّها رُكنًا أَطوفُ بِهِ ... والخالُ، في صَحْنِهِ، يُغْني عن الحَجَرِ
أحمد بن أبي طاهر:
أَغَنُّ رَبيبُ الرَبْربِ الغِيدِ والمَها ... بِمُقْلةِ وَحشيِّ المحاجرِ أَدْعَجِ
له وَجَناتٌ نُكتَةُ الخالِ وسْطَها ... كنُقطةِ زاجٍ في صَفيحةِ زِبْرِجِ
ابن أبي فنن، في الخال الأبيض:
يا حُسنَ خالٍ بِخدّ قد كَلِفْتُ بهِ ... كأنهُ كَوْكبٌ قد لُزَّ بالقمرِ
الباب الخامس
الخدود
عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
قد صَنَّفَ الحُسنُ في خدَّيكِ جوهَرَهُ ... وفيهما أودعَ التفاحُ أَحمرَهُ
فكلُّ سِحْرٍ فمِن عَيْنَيكِ أَوَّلُهُ ... مُذ خَطَّ هاروتُ في عَيْنيْكِ عَسكَرَهُ
قد كانَ لي بَدنٌ ما مَسَّهُ سَقَمٌ ... فَمُذْ أُتيحَ له الهِجرانُ غيَّرَهُ
قلبي رَهينٌ بكفَّيْ شادِنٍ خَنِثٍ ... يُمِيُتُه فإِذا ما شاءَ أَنْشَرَهُ
الوجيهي:
لا والذي جَعلَ الموا ... لِيَ في الهوى خَوَلَ العَبيدِ
وأَصارَ في أَسْرِ الظِّبا ... ءِ قِيادَ أَعناقِ الأُسودِ
وأَقامَ أَلْوِيَةَ المَنيَّةِ بين أَفْنِيَةِ الصُدودِ
ما الوردُ أحسنُ مَنْظَرًا ... في الروضِ من وردِ الخُدودِ
ابن الرومي:
تَورُّدُ خدَّيْه يُذكِّرُني الوَرْدا ... ولمْ أَرَ أَحلى منه شَكْلًا ولا قَدّا
كأنّ الثُريَا عُلِّقَتْ في جَبينِه ... وبَدر الدُجى في النَحْرِ صِيغَ له عِقْدا
وأَهدتْ له شمسُ النهارِ ضِياءَها ... فمرَّ بثوب الحُسْنِ مُرتديًا فَردا
فلم أرَ مثلي في شقائي بمثلهِ ... رَضِيتُ به مَولىً ولم يرضَ بي عَبْدا
ابن المعتز:
يا مَن يجودُ بموْعِدٍ من لَحْظهِ ... ويصُدُّ حين أقولُ أينَ الموعِدُ
وَيَظلُّ صَبّاغُ الحَياء بِخَدِّه ... تَعِبًا يُعصْفِرُ تارةً ويُسوِّدُ
الراضي:
يَصْفَرُّ وَجْهي إذا تَأمَّلني ... خَوفًا، ويَحْمَرُّ وَجهُهُ خَجَلًا
حتى كأنَّ الذي بِوَجْنَتهِ ... مِن ماءِ وجهي إِليهِ قد نُقِلا
الواثق بالله:
أَيُّها الخادِمُ من مَوْ ... لاكَ؟ مولاكَ وَصِيفُ
أَنا مَمْلوكٌ لِمَمْلو ... كٍ ولِلدَّهرِ صُرُوفُ
يا غَزالًا لَحْظُ عَيْنيْهِ سِهامٌ وَحُتوفُ
ما الذي ورَّدَ خدَّيْكَ؟ ربيعٌ أَمْ خَريفُ
آخر:
بَيضاءُ رُؤْدُ الشباب قد غُمِستْ ... في خَجلٍ دائمٍ يُعصِفرُها
مَجدولةٌ هزَّها الصَّبا فَشَجا ... قلبَك مسموعُها ومَنظَرُها
الناشيء:
قَبَّلتُه خُلسةً من عين راقبهِ ... ومَسَّ ما مَسَّ من ثَغري مُشَنَّفُهُ
فاحْمرَّ من خَجلٍ واصفرَّ من وَجَلٍ ... وحَيْرةُ الحُسن بين الحُسن أَطْرَفُه
العلوي:
أَبْرزَهُ الحمَّامُ كالفِضَّةَ ... أَبانَ عنه عُكَنًا بَضَّهْ
كأنَّما الماءُ على خَدِّهِ ... طَلٌّ على سُوسَنَةٍ غَضَّهْ
فَليْتَ لي من فَمِه قُبلةً ... وليتَ لي من خدِّهِ عَضَّهْ
النوفلي:
بِأبي من نَباتُ خد ... ديْهِ وردٌ ونَرجِسُ
وعلى مِثلِه تَذو ... بُ قلوبٌ وأنفُسُ
آخر:
مُوَرَّدُ ما بيَن العِذارِ إلى الخدِّ ... بوردٍ بَديعٍ ليس من جَوْهرِ الورْدِ
أبو نواس:
وذاتِ خدٍّ مُورَّدْ ... قُوهِيةِ المُتَجَرَّدْ
تأمَّلُ العينُ منها ... مَحاسِنًا ليس تَنْفَدْ
والحُسنُ في كلِّ جِزْءٍ ... مِنها مُعادٌ مُردَّدْ
فَبَعْضُه يَتَناهى ... وَبعضُهُ يَتَوَلَّدْ
1 / 9
وكلَّما عُدْتُ فيهِ ... يكونُ في العوْدِ أَحْمَدْ
أخذه من قول محمد بن بشير، وهذا محدث. وأما محمد بن بشير فهو من شعراء العرب:
أَأَطلُبُ الحُسنَ في أُخرى وأَترُكُها ... بلْ ذاكَ حينَ تركْتُ الحُسنَ والحَسَبَا
ما إِنْ تَأمَّلْتُها يومًا فَتُعْجِبُني ... إِلاَّ غدا أَكثر اليوميْنِ لي عَجَبَا
ابن المعتز:
تُفَاحتا خدَّيْكَ قد عُضَّتا ... بأَعيُن العالَمِ فاحمَرَّتا
غَطِّهِما لا تُؤْكَلا عَنْوَةً ... أَو تَفْنَيا شَمًَّا فقد رَقَّتا
الحسين بن الضحاك، وقد أحسن:
صِلْ بخدِّي خدَّيْكَ تَلْقَ عجيبًا ... من مَعَانٍ يَحارُ فيها الضميرُ
فبخدَّيْكَ لِلربيعِ رياضٌ ... وبخدَّيَّ للدُموعِ غَدِيرُ
وله:
أَظهرَ الكبرياءَ من فَرطِ زهوٍ ... فتلقَّيْتُهُ بِذُلِّ الخُضوعِ
وَحَباني رَبيعُ خدَّيْهِ بالورْ ... دِ فأَمْطَرْتُهُ سَحابَ الدُموعِ
أبو هفان:
خَدّي لِدمعٍ فيهِ مُرْفَضِّ ... وخدُّه للشَمِّ والعَضِّ
بَعضي على بعضِيَ يَبكي دَمًا ... وبَعضهُ يُزهى على بعضِ
ما كَمَلَتْ حتى بَدا حُسْنُهُ ... ولا اسْتَتمتْ زينةُ الأرضِ
قد كِدْتُ أَن أَقضِيَ من هَجرِهِ ... وحُقَّ لِلْمَهْجورِ أَن يَقضي
ابن المعتز:
ورْدُ الخدودِ وَنْرجِسُ اللحَّظاتِ ... وتصافُحُ الشَفَتْينِ في الخَلَواتِ
شيءٌ أُسَرُّ بهِ وأعلمُ أَنهُ ... وَحَياةِ من أَهوى من اللذَّاتِ
ابن الرومي:
وشُفوفِ البدن النا ... عمِ في الثوب الرقيقِ
ورحيقٍ كحريقٍ ... في أَباريقِ عَقيقِ
إِنَّ مَن ورَّدَ خدَّيْكِ لَصَبّاغٌ رقيقُ
وقال الصنوبري:
بَدرٌ بَدا بالضِياءِ مُعْتَجرا ... غُصْنٌ أتى بالبَهاءِ مُتَّشِحا
رَقَّ فلو كلَّفَتْهُ أعْيُنُنا ... أَن يَرشَحَ الخمرَ خَدُّهَ رَشحا
آخر:
مُتَرَقرِقُ الخدَّيْنِ مِن ... ماءِ الصِّبا والطيبِ يَنْدى
وتَرى على وَجَناتِهِ ... في غيرِ حينِ الوَرْدِ وَرْدا
وقال المهلبي:
نفسي فداءُ مُدلَّلٍ ... رَبَع الربيعُ بعارضَيْهِ
أَسكرتُه من خمرةٍ ... وسكرتُ من نظري إِليهِ
المفجع:
ظَبيٌ إِذا عَقْرب أَصداغَه ... رأيتَ ما لا تُحْسِنُ العقربُ
تُفاحُ خدَّيْه له نَضْرَةٌ ... كأنه من دَمْعَتي يَشرَبُ
ابن ميادة وأحسن وأبدع في معناه:
جزى اللهُ يومَ البَيْن خَيرًا فإنهُ ... أَرانا، على عِلاَّتِه، أُمَّ ثابِتِ
أَرانا رَقيقاتِ الخُدودِ ولم نكُنْ ... نراهُنَّ إِلاَّ بانْتِعاتِ النَواعِتِ
وهذا من بدائعه. وعليه عول الشعراء في العشق بالصفة دون الرؤية، كبشار حيث قال:
يا قومُ أُذني لبعضِ الحيِّ عاشِقَةٌ ... والأُذْنُ تعشَقُ قبلَ العينِ أَحيانا
وكابن قنبر مهاجي مسلم بن الوليد:
ولستَ بواصفٍ أبدًا خَليلًا ... أُعَرِّضُهُ لأهْواءِ الرِجالِ
وما بالي أَشوِّقُ عَيْنَ غيري ... إِليهِ ودونه سَترُ الِحجالِ
وكماني الموسوس:
سمِعْتَ به فَهِمْتَ إليه شوْقًا ... فكيف لكَ التَصَبُّرُ لوتراهُ
الباب السادس
نعت الوجنات
الحسن بن وهب:
لا النومُ أَدْري به ولا الأَرَقُ ... يَدْري بِهذيْنِ من بهِ رَمَقُ
أَرَدْتُ تَقبيلَ نارِ وَجْنتِهِ ... خَشِيتُهُ، إِن دنوْتُ أَحترِقُ
ابن المعتز:
وَجْنتاهُ أَرقُّ من قَطْرِ ماءٍ ... ودُموعي يَجرِينَ جرْيًا عليهِ
وَتَرى قلبَه الحَديدَ ولكِنْ ... لي فُؤادٌ أرقُّ مِن وَجْنَتَيْهِ
ابن الرومي:
وغزالٍ تَرى على وَجْنَتَيْهِ ... قَطْرَ سَهمَيْهِ من دِماءٍ القُلوب
لَهفَ نفسي لِتِلْكَ من وَجناتٍ ... وَردُها وَردُ شارِقٍ مَهْضوبِ
أبو نواس:
لِلْحُسْنِ في وَجَناتِهِ بِدَعٌ ... ما إِنْ يَمَلُّ الدرسَ قارِيها
لو تَستَطيعُ الأرضُ لانْقَبَضَتْ ... حتى يكونَ جميعُهُ فيها
ابن المعذل:
قلتُ لهُ إِذ مرَّ بي فَرْدا ... مولايَ هل تَقْبَلُني عَبْدا
1 / 10
فأَطبَقَ الورْدَ على نَرْجِسٍ ... فامْتلأَتْ وجنتُهُ وَرْدا
آخر:
فاحْمَرَّ حتى كِدتُ أَن لا أَرى ... وَجْنَتَهُ من كَثْرةِ الوَرْدِ
ابن الرومي:
يا طُرَّتَيْهِ الَّلتينِ مِن سَبَجٍ ... في وَجْنتيهِ اللتينِ من وَهَجِ
ما حُمْرَةٌ فيهما؟ أَمِنْ خَجَلٍ ... أم فِطْرَةُ اللهِ؟ أَمْ دَمُ المُهَجِ
خالد الكاتب:
عَليلُ اللَّحْظِ والطَّرْفِ ... مَليحُ الشَّكْلِ والظَّرفِ
لقد جاوَزَ في البَهْجَةِ والحُسْنِ مَدى الوَصْفِ
له وَرْدٌ على الوجْنَةِ مَمْنوعٌ مِن القَطْفِ
يَبُثُّ السُقْمَ من عَينيْهِ لكِنْ لحظُهُ يَشْفي
الصنوبري:
وَجنَتُكَ النارُ ثغرُكُ البَرَدُ ... يا مَنْ هو الظَبْيُ بل هو الأَسَدُ
هذا طِرارٌ عليكَ أَم سَبَجٌ ... ذانِكَ صُدغانِ أَم هُما زَرَدُ
مالي بِخَدَّيْكَ يا غُلامُ يدٌ ... ولا لخدَّيْكَ بالعيونٍ يدُ
فكيفَ أَبكي بأَدمُعي جَسَدي ... لم يَبْقَ لي أَدمُعٌ ولا جسدُ
أبو نواس:
وَابِأَبي وجهُكَ المُفَدَّى ... والوَجَناتُ المُورَّداتُ
والعارِضانِ اللَّذانِ طابا ... حينَ بدا فيهما النَباتُ
في فَمِكَ العَنبرُ الفُتَاتُ ... في رِيقِكَ البارِدُ الفُراتُ
وأَينَما كُنتَ من بِلادٍ ... فلي إِلى وجْهِكَ التِفاتُ
آخر:
ومُبيحِ أَسرارِ القلو ... بِ بوجْنَتيْهِ وحاجِبَيْهِ
جَمَعَ الإلهُ لهُ المحَا ... سِنَ ثم أَفْرغَها عليهِ
وكأَنَّ مِرْآتَيْنِ عُلِّ ... قَتا بِصَفْحَةِ عارِضِيْهِ
وكأَنَّ وَردَ الجُلَّنا ... رِ مُضَعَّفٌ في وَجنتيْهِ
وقال ديك الجن:
بأبي الثلاثُ الآنسا ... تُ الرائقاتُ الفاتِناتُ
أَقبلْنَ والأَصداغُ من ... وَجناتِهِنَّ مُعَقْرباتُ
ألفاظهُنَّ مؤنَّثا ... تٌ والجفونُ مُذكْراتُ
حتى إذا عايَنْتُهُنَّ وللأمور مُسبِّباتُ
جَمَّشْتُهُنَّ وقلتُ طيبُ عناقكُنَّ هو الحياةُ
فَخَجلنَ حتى خِلْتُ أنَّ خدودهنَّ مُعَصْفَراتُ
ابن الرومي:
تَشرَعُ الألحاظُ في وَجْنَتِها ... فَتُلاقي الرِيَّ من مَشْرَبها
فهي حَسْبَ العينِ من نُزْهَتِها ... وهي حَسْبُ الأُذْن من مَطْرِبها
آخر:
إني هَويتُ من السَّعادةِ مَسْعدًا ... لِبَني الهوى فغدا مَشُوقًا شائِقا
فإذا دنا جعلَ الزيارةَ شأنهُ ... وإذا نَأى بَعَثَ الخيالَ الطارِقا
عاتَبْتُهُ يومًا وفي وجناتهِ ... وردٌ، فصارَ من الحياءِ شقائِقا
ابن المعتز:
قَد صادَ قلبي قَمَرُ ... يَسَحُر منه النظرُ
وقد فُتِنْتُ بعدكُمْ ... وضاعَ ذاكَ الحذرُ
بِوجْنةٍ كأنَّما ... يقدَحُ منها الشَرَرُ
وشاربٍ قد هَمَّ أوْ ... نَمَّ عليه الشَعَرُ
ضَعيفةٌ أجفانهُ ... والقلب منه حجر
كأنّما أجْفانُه ... من فِعْلِها تَعتذِرُ
لم أرَ وَجْهًا غيرَ ذا ... يَحيى عليهِ بَشَرُ
ابن المعذل:
بمَجاري فلكِ الحُسنِ الذي في وَجَناتِكْ
وبِنُونَيْنِ على خَد ... ديْكَ من غَيْرِ دَوَاتِكْ
وبما يصنعُ في النَّا ... سِ تَشاجِي حَرَكاتِكْ
وبما أغَفْلَهُ الوا ... صفُ من حُسنِ صفاتِكْ
لا تَدعنِي والهوى ... يَجْرحُ قلبي بِحياتِكْ
آخر:
غَدَا وغَدا تَورُّدُ وجْنَتَيهِ ... بِعَينِ مُحبِّهِ يَصِفُ الرِياضا
على خدَّيه ماءٌ عَسْجَدِيٌّ ... إذا نظرَ الرقيبُ إليهِ غاضا
يُؤمِّلٌ جنة الفِردَوْسِ قومٌ ... وآمُلُ منهُ شَمًّا أو عَضاضا
غزالٌ كلَّما ازْدَدْتُ اقترابًا ... إليهِ زادَ بُعدًا وانْقباضا
كَتَمْتُ هواهُ حتى فاضَ دَمعِي ... فَصَيَّرَهُ حَديثًا مُسْتَفاضا
الباب السابع
نعت الحواجب
الزاهي:
وأغْيَدَ مَجدولِ القوامِ جَبينُهُ ... سَنا القمرِ البَدرِيَّ في الغُصُنِ الرطْبِ
تَنَكَّبَ قوسَ الحاجِبينِ فَسْهمُهُ ... لواحِظُهُ المَرْضى وقِرْطاسُه قلبيِ
1 / 11
عبد الله بن أبي الشيص:
حذِرْتُ الهوى حتى رُميتُ مَن الهوى ... بأصْرَدِ سهمٍ في قِسيِّ الحواجبِ
رَمَينَ فأصْمَيْنَ القَلوبَ مكانَها ... وتُخطي يَدُ الرامي له في المغايِبِ
محمد بن عبد الرحمن الكوفي:
وَمُستلِبٍ عينَ الغزالِ وقد تُرى ... بِجبهتِهِ عينُ الغزالةِ ماثِلا
تَنادَلَ قوسَ الحاجِبينِ مُفَوَّقًا ... بأسْهُمِ ألحاظٍ تَشُكُّ المَقَاتِلا
خالد الكاتب:
له مِن مهاةِ الرملِ عيْنٌ مَريضةٌ ... ومِن ناضِرِ الريْحانِ خُضْرَةُ شارِبِ
ومن يانعِ التُفَّاحِ خدٌّ مورَّدٌ ... ومن خَطِّ حُلوِ الخطِ تقويسُ حاجبِ
ومن ناعِمِ الأغصانِ قَدُّ وقامةٌ ... ومن حالِكِ الحِبْر اسودادُ الذَوائبِ
ومن كُلِّ ما تهوى النفوسُ وتَشْتَهي ... نَصيبٌ، وما فيهِ نَصيبٌ لِعائِبِ
آخر:
غَزاني الهوى في جَيشِهِ وجُنودِه ... وعبَّا عليَّ الخيلَ من كُلِّ جانِبِ
بِمَيْسَرةٍ أعلامُها أعينُ المها ... ومَيْمَنَةٍ تَقضي بِزُجِّ الحواجبِ
وأثْبَتَ شخصَ البدرِ في حَوْمَةِ الوغى ... بِرايتِهِ الكُبرى لِفَلَّ الكتائِبِ
الموصلي:
فوقَ العيونِ حواجبٌ زُجُّ ... تحتَ الحواجبِ أعيُنٌ دُعْجُ
ينظرنَ من خَلَلِ النقابِ وإنَّما ... تحتَ النِقابِ ضواحكٌ فُلْجُ
وإذا نظرنَ رَمَقْنَ عن مُقلٍ ... تَسبي العقولَ وحَشوُها غُنْجُ
وإذا ضَحِكنَ ضَحِكْنَ عن بَرَدٍ ... عَذْبٍ الرُضاب كأنّه ثَلْجُ
وإذا نَزعن ثيابَهُنَّ تَرَسَّلَتْ ... فوق المتون ذوائِبٌ سُبجُ
وافيْنَ مكَّةَ للحَجيجِ فلمْ ... يَسلمْ بهنَّ لُمحرِمٍ حَجُّ
الباب الثامن
العيون والزرقة والشهلة والحول والرمد
قال الأصمعي: ما وصف أحد العيون بمثل ما وصف به عدي بن الرقاع:
وكأنها بين النِساءِ أعارها ... عَينيهِ أحورُ من جآذرِ جاسِمِ
وسْنانُ أقصَدَُ النُعاسُ فرنَّقَتْ ... في عينِهِ سنةٌ وليس بِنائمِ
الناجم:
كادَ الغزالُ يكونُها ... لكنَّما هُو دونُها
والنرجسُ الغضُّ الجنيُّ أغضُّ منهُ جُفونُها
مَنْ كانَ يعرفُ فَضلَها ... فعنِ القياسِ يصونُها
جرير:
لولا مُراقبةُ العيونِ أرْيننا ... حدقَ المها وسوالِفَ الآرامِ
ونظرنَ، حين سمِعْنَ جَرْسَ تحيَّتي ... نظرَ الجيادِ سمِعْن صوتَ لجامِ
ابن المعتز، والناس يستبدعونه:
عَليمٌ بما تحتَ الصدورِ من الهوى ... سريعٌ بكرِّ اللحظِ والقلبُ جازعُ
ويجرحُ أحشائي بعينٍ مريضةٍ ... كما لانَ مَسُّ السيفِ والسيفُ قاطِعُ
البحتري:
ويحسُنُ دلُّها والموتُ فيهِ ... وقد يُستحسَنُ السيفُ الصقيلُ
وقد قال سلم الخاسر في الرشيد:
طلعَ الخليفةُ مطلعَ الشمسِ ... فَعَلا رقابَ الجِنِّ والإنسِ
وعليهِ مصقولٌ عوارضُهُ ... خَشِنُ الكريهةِ ليِّنُ المسِّ
وتقول العرب: الحية لين لمسها، قاتل نهشها.
وقول ابن المعتز في معناه حسن:
إن زَنَتْ عينُهُ بغيركَ فاضرِبْها بطول السُهادِ والدمعِ حَدّا
وقد كرر فقال:
أتَتْني تؤنِّبُني في البُكاء ... فأهلًا بها وبتَأنيبِها
تقولُ، وفي قولِها حشمةٌ ... أتَبْكي بعينٍ تَراني بها
فقلتُ: إذا استحسَنَتْ غيركُمْ ... أمرتُ الُدموعَ بتأديبِها
وهذا من مختار شعر ابن المعتز. إلا أنه عكس قول الأخطل:
فلا تلمُمْ بدارِ بني كُليبٍ ... ولا تقرَبْ لهمُ أبدًا رِحالا
فإنَّ لهم نساءً مُبرقاتٍ ... يكدْنَ ينِكْنَ بالحدَقِ الرِجالا
قال أبو المثنى: أنشدني خالد لنفسه بديهة:
عَينهُ سفَّاكةُ المهجِ ... مِن دَمي في أعظمِ الحَرَجِ
أسْهرتْني وهي لاهيةٌ ... باحْوِرارِ العيْنِ والدَعَجِ
قُلْ لظبيٍ كلُّهُ حَسنٌ ... عَجَبي من فِعلكَ السَمِجِ
لا أتاحَ اللهُ لي فَرَجًا ... يومَ أدْعو منكَ بالفرجِ
قال: فأنشدتها وهبًا الهمداني فأنشدني لنفسه بديهة:
تعملُ الأجفانُ بالدَّعجِ ... عملَ الصَّهباء بالمُهَجِ
1 / 12
قُلْ لظبيٍ تُسترقُّ لهُ ... مُهجُ الأحرار بالدَّعجِ
أنتَ والأجفانُ مالحظَتَ ... من فُتورِ العيْن في حرجِ
كيفَ أدعو اللهَ أسألُهُ ... فَرجًا ممَّن به فَرجي
وهذا أول من قاله أبو نواس:
لا فرَّجَ اللهُ عني إنْ مددتُ يدي ... إليه أسألُه من حبِّه الفَرجا
أبو دلف:
نَقْتَنِصُ الآسادَ من غِيلها ... وأعيُنُ العينِ لنا صائدهْ
يَنْبو الحُسامُ العَضبُ عنّا وقد ... تكَلُمُ فينا النظرةُ القاصِدَهْ
تَهابُنا الأسْدُ ونخشى المَها ... آبِدةٌ ما مثلُها آبدهْ
ابن المعتز:
وبيضٍ بألحاظِ العيونِ كأنَّما ... هَزَزْنَ سُيوفًا واستَلَلْنَ خَناجِرا
تَصدَّيْن لي يومًا بِمنعرَجِ اللِوى ... فغادرْنَ قلبي بالتصبُّر غادِرا
سفَرْن بُدورًا، وانْتقبْنَ أهلَّةً ... ومِسْنَ غُصونًا والتفتْنَ جآذِرا
وأطلعْنَ في الأجيادِ للوردِ أنجْمًا ... جُعِلْن لحبَّاتِ القلوبِ ضَرائرا
البرقعي:
إني أخافُ مِن العُيو ... نِ النُجْلِ والحَدقِ المِراضِ
وأزورُ ليثَ الغابِ بالهندِيِّ في وسطِ الغياضِ
وإذا رأيتُ مُوَرَّدَ الوَجَناتِ جُمِّشَ بالعَضاضِ
أيقنتُ أنَّ مَنِيَّتي ... بينَ التورُّدِ والبَياضِ
خالد:
ومريضِ طَرْفٍ ليس يصرفُ طرفَهُ ... نحو امرِئٍ إلاَّ رماهُ بحَتْفِهِ
قد قلتُ إذْ أبْصرتُهُ مُتمايِلًا ... والرِدفُ يجذِبُ خصرَهُ من خَلْفِهِ
يا مَن يُسلِّمُ خصرهُ من رِدفِهِ ... سلِّمْ فؤادَ مُحبِّهِ مِن طرفِهِ
الجنزرزي:
لمّا نظرتَ إليَّ من حَدَقِ المَها ... وضَحكتَ عن مُتَفَتَّحِ الأنْوارِ
وعقدتَ بينَ قضيبِ بانٍ ناعِمٍ ... وكَثيبِ رملٍ عُقدةَ الزُنْارِ
عفَّرتُ خدَّي في الثَرى لكَ خاضِعًا ... وعَزمتُ منكَ على دخولِ النارِ
جحظة:
صادَتْ جميعَ الناسِ أجفانُكْ ... وعزَّ في العالمِ سُلطانُكْ
مَن مُنصفي منكَ وكُلُّ الوَرى ... مِن خوفِ سلطانِكَ أعوانُكْ
أبو هفان:
أخو دَنَفٍ رمتْهُ فأقْصدتْهُ ... سهامٌ من جُفونكِ لا تطيشُ
قواتلُ، لا نِصالَ سوى احْوِرارٍ ... بِهنَّ، ولا سِوى الأهدابِ ريشُ
أصبْنَ سوادَ مُهجتهِ فأضْحى ... سقيمًا لا يموتُ ولا يعيشُ
كثيبًا إنْ ترحَّلَ عنهُ جيشٌ ... من البَلوى أناخَ به جُيوشَ
آخر:
بحُرمةِ ما في العَينِ من نَرجِسٍ غَضِّ ... ووردٍ جنيٍ لاحَ في موضِعِ العَضِّ
أَبِنْ ليَ هلْ هَجْري عليكَ فريضةٌ ... فأنتَ، بحمد الله، تأخذُ بالفرضِ
بَراكَ إلهُ الخلقِ من لُؤلُؤ رطبِ ... فبعضُكَ من حُسنٍ يَغارُ على بعضِ
ما قيل في الزرقة والشهلة
شاعر:
قالوا بهِ زُرقةٌ فقلتُ لهُمْ ... بذاكَ تمَّتْ خِصالُهُ البَهِجَهْ
ما عابَهُ ما تروْنَ من زَرَقٍ ... كم بينَ فَيْروزَجٍ إِلى سَبَجَهْ
آخر:
زُرقةٌ في شُهُولةٍ فهو سيفٌ ... في دَمٍ غيرً أَنهُ ليس يَصدا
كلما عاوَدَتْهُ باللحظ عَيْني ... عادَ للحِينِ حُسْنُه مُستَجِدَّا
الخليع:
ومُكتَحِلٍ في العينِ من فوقِ شُهلةٍ ... يَدِبُّ على أرجاء مُقلتهِ السحرُ
له وجنةٌ ما تحمِلُ العينَ رِقةً ... جوانِبُها بيضٌ وأوساطُها حُمْرُ
وفي الحول
أبو الأسود الدؤلي:
يَعِيبونَها عِندي ولا عَيبَ عِندَها ... سِوى أَنَّ في العَيْنينِ بعضَ التأخُّرِ
وإِنْ يَكُ في العَيْنينِ سُوءٌ فإِنها ... مُهَفْهَفةُ الأَعلى رَداحُ المُؤزَّرِ
أبو حفص الشطرنجي:
حَمِدْتُ إلهي إذ بُليتُ بحُبها ... على حَوَلٍ يُغني عن النَظرِ الشَزْرِ
نَظرتُ إليها والرَقيبُ يَخالُني ... نَظرتُ إليه فاستَرَحْتُ من العُذْرِ
سعيد بن حميد في وصف الحول نفسه وأجاد:
وَنَجْمينِ في بُرجيْن هادٍ وحائِرٌ ... إذا طَلعا حَلَّ الكُسوفُ بواحدِ
إذا غُيِّبَ الهادي وَواراهُ بُرُجُهُ ... تَراءى لهُ المَقْصودُ في زِيِّ قاصدِ
1 / 13
لهذا، على التشبيهِ، قوةُ زُهرةٍ ... وفي ذا، على التمثيلِ، طَرفُ عُطاردِ
مِنَ الأَنجُمِ اللاَّئي جَرَتْ في بُروجِها ... ولم تَدْرِ ما معنى بُروجِ الفرَاقِدِ
العلوي البصري:
ونَظرةِ عَيْنٍ تعلَّلْتُها ... خِلاسًا كما نَظرَ الأَحوَلُ
تَقسَّمتُها بين وجهِ الحبيبِ وطرفِ الرقيبِ متى يغفلُ
آخر:
سَأجْتنِبُ الدارَ الني أَنتمُ بها ... ولكنَّ طَرفي نحوَها سوفَ يعملُ
أرى مُستقيمَ الطرفِ ما الطرفُ أَمَّكُمْ ... فإِن زالَ طرفي عنكُمُ فهو أَحْوَلُ
آخر:
ومُنقَلِبٍ طَرفُهُ فاترٌ ... يُقلِّبُ باللحظ مِنّا القلوبا
فعينٌ تُوهِّمُني مَوْعِدًا ... وعينٌ تُشاغِلُ عني الرَقيبا
يُصانِعُ خَصْمينِ في لحظِهِ ... فَلَنْ أَستريبَ ولن يَستَريبا
وابن الرومي قد أبدع في نظر الحبيب، وتأثيره في القلوب ما لم يذكره أحد.
وكرره في مواضع من شعره فقال:
نظرتْ فأَقصدَتِ الفؤادَ بطرفِها ... ثم انْثَنَتْ عَني فكِدْتُ أَهيمُ
وَيْلايَ إِنْ نظرتْ وإن هيَ أَعرضتْ ... وقْعُ السِهام ونزْعُهنَّ أَليمُ
قال وزاد فيه معنى آخر:
لَطَرفُها، وهو مَصْروفٌ، كموقِعِه ... في القلبِ حينَ يَروعُ القلبَ موقِعُهُ
تَصُدُّ بالطرفِ، لا كالسَّهم تَصرِفُه ... عني، ولكنّه كالسَّهمِ تَنْزِعُه
وقال أيضًا:
تَشَكَّى إذا ما أَقْصَدَتْكَ سِهامُها ... وتَشْجى إذا نكَّبْنَ عنكَ وتكمَدُ
إذا نَكَبَتْ عنّا وجدْنا عُدولَها ... كموقِعها في القلب، بل ذاكَ أَجهَدُ
كذلكَ تلكَ النَبْلُ من وقعتْ به ... ومن صُرِفَت عنه من القومُ مقْصَدُ
وقد التزم ابن الرومي في هذه القصيدة فتحة ما قبل حرف الروي تبرعًا، إلا في بيت واحد وهو:
ومَرجوعُ وهّاج المَصابيحِ رِمْدَدُ
وأخبرني أبو عبيد الله المرزباني أن أبا عثمان الناجم أخبره أن ابن الرومي دفع إليه هذه القصيدة وقال: اذهب بها إلى ثعلبكم وأنشده إياها، فما رد من لغتها فلا تلتفت إليه، وما رد من إعرابها فعلم عليه لأرجع فيه. وأنشده رمدد بفتح الدال التي ردفت حرف الروي؛ فلم يرده عليه.
وعند علماء اللغة هو رمدد بكسر الدال الأولى. ولم يأت في العربية ما تكرر فيه حرفان على فعلل إلا رمدد ودردح للناقة المسنة، وقرقس للبعوض. وقال البن السكيت: لم يرد في اللغة فعلل بكسر الفاء وفتح اللام إلا حرفان: درهم وهجرع للطويل. وقد جاء ثالث وهو هبلع للأكول.
قال الشاعر:
فَشَحا جحافِله جِرافٌ هِبْلَعُ
وأبو الحسن الأخفش يقول فيه شيئًا ليس هذا موضعه، وفي هركولة.
وابن الرومي لاقتداره وغزارته يلتزم في القوافي مالا يلزمه. وهو بالفكر والروية سهل. والصعب ما تعمله العرب بديهة وارتجالًا؛ كما أنشده سيبويه.
لا يَبْعَدَنْ قومي الذين هُمُ ... سُمُّ العُداةِ وآفةُ الجُزْرِ
النازِلينَ بكلِّ مُعْتَرَكٍ ... والطيبينَ مَعاقِدَ الأُزْرِ
وهذا المعنى في النظر قد غلب عليه ابن الرومي، كما غلب الطرماح على قوله:
والشمسُ مُعرِضَةٌ تمورُ كأنّها ... تُرسٌ يُقَلِّبُه كَمِيٌّ رامِحُ
وألم به أبو النجم:
فهي على الأُفْق كَعينِ الأَحوَلِ ... صَغْواءَ قد كادتْ ولمَّا تَفعَلِ
وكما غلب بشار على قوله:
وقالوا: قدْ بكيتَ فقلتُ كلاّ ... وهل يَبكي من الطَّرب الجَليدُ
ولكِنْ قد أصابَ سوادَ عيْني ... عُوَيْدُ قَذىً له طَرَفٌ حَديدُ
فقالوا: ما لِدْمعِهما سَواءٌ ... أَكلتا مُقلتيْكَ أصابَ عودُ
وألم به أبو العتاهية فقال:
كمْ مِن صَديقٍ لي أُسا ... رِقُهُ البُكاءَ من الحَياءِ
فإذا تأمَّلَ لامَني ... فأقولُ: ما بي مِن بُكاءِ
لكنْ ذهبتُ لأَرتَدي ... فطَرَفتُ عيني بالرِداءِ
وكما غلب العتبي على قوله:
رأَيْنَ الغواني الشيبَ لاحَ بعارِضي ... فأَعْرضْنَ عني بالخُدودِ النَواضِرِ
وكُنَّ إذا أَبْصَرْنَني أو سَمِعْنَ بي ... سَعَيْنَ فَرقَّعْنَ الكُوى بالمحاجِرِ
وكما غلب أبو نواس على قوله:
1 / 14
فَلِلْخمر ما زُرَّتْ عليهِ جُيوبُها ... وللماءِ ما دارتْ عليه القَلانِسُ
ومنه أخذ ابن المعتز قوله:
وبيضاءُ الخِمار إذا اجْتَلتْها ... عيونُ الشَّرْب صفراءُ الإِزارِ
وكما غلب أبو العتاهية على قوله في البنفسج:
كأنها فوقَ طاقاتٍ ضَعُفْنَ بِها ... أَوائلُ النارِ في أَطرافِ كِبْريتِ
وكما غلب أبو حية النميري على قوله في حيرة الدمع في العين:
نَظرتُ كأنّي من وراء زُجاجةٍ ... إلى الدارِ من فَرْطِ الكآبةِ أَنظُرُ
وقد عارضه فيه خلق كثير من الشعراء، فلم يصنعوا شيئًا. منهم أبو الشيص، قال:
حَجبتْ عينيَ الدموعُ فإِنسا ... ني غريقٌ يَبدو مِرارًا ويَخْفى
فكأني نَظرْتُ مِن خَلفِ سِتْرٍ ... هزَّتِ الريحُ متْنَهُ فتَكفّا
وفي هذا التشبيه نظر.
ومنهم قيس حيث قال:
وممَّا شَجاني أَنها يومَ أَعرضتْ ... تولَّتْ وماءُ العين في الجَفْنِ حائِرُ
وقال ذو الرمة:
وإنسانُ عيني يَحسُرُ الماءَ تارةً ... فيبدو، وأَحيانًا يَجُمُّ فَيَغْرَقُ
وقال البحتري:
وَقَفْنا والعيونُ مُشعَّلاتٌ ... يغالِبُ دمعَها نظرٌ كليلُ
نَهَتْه رِقْبةُ الواشينَ حتى ... تعلَّقَ لا يَغِيضُ ولا يَسِيلُ
وقال أبو السمط مروان:
أُلِمُّ بالبابِ كي أَشكو فيمنعُني ... فَيْضُ الدموعِ على خدِّي، من النظرِ
أقبلتُ أَطلبُها، والقلبُ مَنْزِلُها، ... أَعْجِبْ بمُقتَرِبٍ مني على سَفَرِ
وقال المتنبي:
عَشيَّةَ يَعْدونا عنِ النَّظرِ البُكا ... وعن لَذَّةِ التوديعِ خوفُ التَفرُّقِ
نودِّعُهم والبَيْنُ فينا كأنَّهُ ... قَنا ابنِ أَبي الهَيْجاءِ في قلبِ فَيْلقِ
وقال أبو نواس:
بِنفسِيَ من رَدَّ التحيةَ ضاحكًا ... فجدَّد بعد اليأس في الوصلِ مَطْمعي
إذا ما بدا أَبدى الغرامُ سرائري ... كأنَّ دموعَ العين تعشَقُه معي
باح الكاتب:
يا غزالًا سَوادُ أَفْئدةِ الأُسْدِ يَعْتلِف
إِنَّ مُذْ خَمْسةٍ لَنا ... رُسُلَ الوعْد تخْتلِفْ
لم تَزُرْني ولم تَسَلْ ... بي على الغَيْبِ يا صَلِفْ
أنا أَفْديكَ كيفَ كُنتَ ألف لام فا أَلفْ
الحسين بن الضحاك:
يا مُعيرَ المُقلةِ الجوْ ... ذُرَ والجيدِ الغَزالا
أَترى بالله ما تَصْنَعُ عيناكَ حَلالا
من جُفون تنفُثُ السحرَ يمينًا وشمالا
كنتَ مِن شتّى فأُلِّفْتَ وجُمِّعتَ مثالا
من قَضيبٍ كَتَمنِّي النفسِ لينا واعْتِدالا
وكثيبٍ يُودِعُ المئزَرَ أَردافًا ثِقالا
وهِلالٍ لاحَ في الأُفْق هِلالًا فتلالا
بأبي أنتَ قضيبًا وكَثيبًا وهِلالا
حارَ ماءُ الحسن في رقَّةِ خدَّيْكَ فجالا
حَبَّذا حُبُّكَ رُشْدا ... كانَ أو كانَ ضَلالا
قوله: حارماء الحسن..أخذه من قول عمر بن أبي ربيعة:
وهي مَكنونةٌ تحيَّرَ منها ... في أَديمِ الخَدَّيْنِ ماءُ الشبابِ
آخر:
خُطَّتْ على الحُسن فهي تَمْلِكُهُ ... فصارَ ما حَولَهُ لهُ خَدَما
لو أَنَّها قابَلتْ بِمُقْلتِها ... بَكرَ بنَ عبدِ العزيزِ لانْهزما
جرير:
ولقد رَمَيْنَك يومَ رُحْنَ بأعْيُنٍ ... ينظُرْنَ من خَلَلِ الخُدورِ سَواجِ
وبمنطقٍ شَعَفَ الفؤادَ كأنّهُ ... عسلٌ يَجُدْن به بغيرِ مِزاجِ
إِنَّ الغُرابَ بما كَرِهْت لَمولعٌ ... بِنوى الأحِبَّةِ دائمُ التَشْحاجِ
ليتَ الغرابَ غداةَ ينعبُ بالنوى ... كانَ الغُرابُ مُقَطَّعَ الأوْداجِ
ولقد عَلمِتِ بانّ سِرَّكِ مُنْسَأ ... بينَ الضلوعِ موثَّقُ الأشْراجِ
هذا هوىً شَغَفَ الفؤادَ مُبَرِّحٌ ... ونوىً تقاذَفُ غيرُ ذات خِلاجِ
وفي حدة النظر قال بعض العرب:
يتقارضونَ إذا الْتقوْا في مَنزلٍ ... نَظرًا يُزيلُ مواقعَ الأقدامِ
يريد: تلاحظ الأعداء وهو من قول الله ﷿: " وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ".
وأما قول أبي تمام:
ومحدودِ الصَنيعةِ ساءَه ما ... تُرَشِّحُ لي منَ السَبَبِ الحَظِيِّ
1 / 15
يَدِبُّ إليَّ من شخصٍ ضئيلٍ ... ويَنظُرُ من شفا طَرَفٍ خَفِيِّ
فإنه يريد: نظرًا بذل. وهو قول الله ﷿: " ينظرون من طرف خفي ".
أنشد:
غَضِيضُ الطَرفِ ساكِنُهُ ... مَنيَّةُ من يُعاينُهُ
كساهُ إلُههُ نُورًا ... تُضيءُ بهِ أماكنُهُ
نقيُّ الجيْبِ من عَيْبٍ ... فما في الناسِ شائِنُهُ
تغيبُ محاسِنُ الدُنيا ... إذا طَلعتْ محاسِنُهُ
العلوي:
يا من تَشاغلَ بالسُرو ... رِ عن الفُؤادِ المُبْتَلى
نَظَري إليكَ إذا رأيتكَ مُدْبرًا أو مُقبِلا
نَظرَ ابنِ فاطمةِ الرِضى ... ماءَ الفُراتِ بِكَرْبلا
الخبزرزي:
قد قُلتُ لما أنْ نَظر ... تُ إلى الحبيبِ مع العُداةِ
وبَقيتُ أنظرُ شاخصًا ... نظرَ المُنازعِ للمَمَاتِ
نَظري إليكَ بِغُصَّةٍ ... نَظَرَ الحُسينِ إلى الفُراتِ
وعلى ذكر العيون وأحوالها، ففي الرمد قول ابن المعتز نادر:
قالوا اشتكتْ عينُه فقلتُ لهم ... مِن كَثرةِ القتل نالها الوَصَبُ
حُمرَتُها من دماءِ من قَتَلتْ ... والدَمُ في النَصْلِ شاهدٌ عَجَبُ
وقد ألم به بعض الشعراء الشاميين فقال في ناصر الدولة يصف رمدًا أصابه ولطف به:
قُضُبُ الهِند والقَنا أخدانُكْ ... والمقاديرُ في الوَرى أعوانُكْ
أيُّهذا الأميرُ ما رَمِدتْ عينُكَ، حاشا لها ولا أجفانُكْ
بل حَكَتْ فِعلَكَ الكريمَ ليُضحي ... شأنُها في العُلى سواءً وشانُكْ
فهي تحمرُّ مثلَ سيفكَ في الروْ ... عِ، وتصفو كما صَفا إحسانُكْ
الباب التاسع
الأنوف
عبد الله بن رواحة:
سَبَتْكَ بِعَيْنيْ جَؤْذَرٍ بخميلةٍ ... وجيدٍ كجيدِ الرِّئمِ زيَّنَهُ النَظمُ
فأنف كحدِّ السيفِ يَشربُ قبلَها ... وأشنبَ رفَّافِ الثنايا بهِ ظَلْمُ
أبو النجم:
للشُّمِّ عندي بَهجةٌ وحلاوةٌ ... وأحبُ بعضَ محاسِنِ الذِّلْفاءِ
وأرى البَياضَ على النِساءِ جَهارةً ... والعِتْقُ أعرِفُه على الأدْماءِ
ذو الرمة:
تَثْني الخمارَ على عِرنين أرنَبةٍ شَمّاءَ مارِنُها بالمسكِ مرْثومُ
تِلك التي تيَّمت قلبي فصارَ لها ... من حُبها ظاهرٌ بادٍ ومكتومُ
الأقرع بن معاذ:
يقولُ ليَ المُفتي وهُنَّ عَشيَّةً ... بمكَّةَ يَرْمَحْنَ المُهدَّبةَ السُحْلا
تَقِ اللهَ لا تنظرْ إليهنَّ يا فتى ... وما خِلتُني في الحجِّ مُلتمِسًا وَصْلا
قِطافُ الخُطا مُلْتَفَّةٌ رَبَلاتُها ... وما اللُّفُّ أفخاذًا بتارِكةٍ عَقلا
فواللهِ ما أنسى، وإن شطَّتِ النوى ... عَرانينَهنَّ الشُمَّ والحَدَقَ النُجْلا
ولا المِسكَ من أردانهنَّ ولا البُرى ... جواعِلَ في ماذِيِّها قَصبًا خَدْلا
ذو الرمة:
إذا أخو لَذَّةِ الدنيا تَبَطَّنَها ... والبيتُ فوقَهما بالليل مُحْتَجِبُ
سافَتْ بِطَيِّبَةِ العِرْنينِ مارنُها ... بالمسكِ والعنبرِ الهِنديِّ مُختَضَبُ
زَيْنُ الشبابِ وإنْ أثْوابُها استُلبَتْ ... على الحشيَّةِ يومًا زانها السَّلَبُ
آخر:
وعَنْدَميَّيْن مُحمرَّيْن قد نصَعا ... في عارِضَيْ جُلَّنارٍ منه وَرْدِيِّ
تَخالُ بينهما أقنى به شَممٌَ ... كحدِّ مُنْصقِلِ الحدَّيْن هِنْدِيِّ
ألحاظُهُ فِتنٌ ألفاظهُ مِحنٌ ... كأنه قمرٌ في جِرْمِ إنسِيِّ
كأن طُرَّتَه في عاجِ جَبْهَتِه ... سوادُ زِنْجِيَّةٍ في لونِ رُومِيِّ
الباب العاشر
الأسنان
ابن الرومي:
ألا رُبما سُؤتُ الغيورَ وساءني ... وباتَ كلانا مِن أخيه على وَغْرِ
وَقبَّلتُ أفواهًا عِذابًا كأنّها ... يَنابيعُ خَمرٍ حُصِّبَتْ لؤلؤَ البَحْرِ
ابن كيغلغ:
لَسُكرُ الهوى أرْوى لِعَظمي ومفصَلى ... إذا سَكرَ النُدمانُ من دائر الخَمرِ
وأحسنُ من رَجْع المَثاني وقَرعِها ... مَراجيعُ صوتِ الثغرِ يُقرعُ بالثغرِ
كشاجم، وأحسن في نعت الأسنان والشفاه:
عَرَضنَ فَعَرَّضْن القلوبَ من الجوى ... لأسرعَ في كيِّ القلوبِ من الجمرِ
1 / 16
كأنَّ الشِفاهَ اللُّعْسَ فيها خواتِمٌ ... من المسكِ مختومٌ بهنَّ على دُرِّ
ابن الرومي:
تَعُلُّكُ ريقًا يَطرُدُ النومَ بَردُهُ ... ويَشفي القلوبَ الحائماتِ الصواديا
وهل ثَغَبٌ حَصْباؤُه مثل دُرِّهِ ... يُصادفُ إلاِّ طيِّبَ الطعْم صافِيا
كشاجم:
كالغُصنِ في رَوضةٍ تَميسُ ... تصبو إلى حُسنها النُفوسُ
ما شَهِدتْ والنساءَ عرسًا ... فَشُكَّ في أنها عَروسُ
تَبْسِمُ عن باردٍ بَرُودٍ ... تَعْبَقُ من طِيبه الكُؤوسُ
يُجمعُ فيه لِمُجتَنيهِ ... مِسكٌ ووردٌ وخنْدَرِيسُ
أخذ قوله: ما شهدت والنساء. من قول أبي نواس:
شَهدتْ جَلوةَ العروس جنانٌ ... فاسْتمالتْ بُحسنِها النَظَّارَهْ
حَسِبوها العروسَ حينَ رأوْها ... فإليها، دونَ العروسِ، الإشارهْ
أعرابي:
بِأشنبَ صافٍ تعرفُ النفسُ أنهُ ... وإنْ لم تَذُقْ، حُوُّ اللِثاتِ عِذابُ
وكف كقنوانِ النَّقا لا يضُرُّها ... إذا برزَتْ أن لا يكونَ خِضابُ
ومْتنانِ يَزدادانِ لينًا ورِقَّةً ... كما اهتزَّ من ماء السُيولِ حَبابُ
أبو دلف:
أحبَبْتُها حُبَّ الحَرا ... م ولم أنلْ منها حَراما
فإذا خَلوْتَ بها فَجا ... ريةٌ وتحسبَهُا غُلاما
وإذا لثَمْتَ على الكرَى ... فالأقحوانةَ والمُداما
تِلك التي خلَبتْ فؤا ... دَ المُستهامِ المُستَهاما
ابن الطثرية:
ومَجدولةٍ جَدلَ العِنان كأنّما ... سَنا البرقِ في داجي الظلامِ ابتسامُها
إذا سُمتُها التقبيلَ صدَّتْ وأعرضتْ ... صُدودَ شَموسِ الخيلِ صَلَّ لِجامُها
فما برحتْ حتى كشفتُ لثامَها ... وقبَّلْتُها ألفًا فَزالَ احتشامُها
آخر:
تَبَسَّمُ عن عَذبٍ كأن بروده ... أقاحٍ تَردّاها من الرملِ أجْرَعُ
جرى الأسحِلُ الأحوى بطَفْل مُطرَّف ... على الزُهرِ من أنيابِها فهي رُصَّعُ
كأن السُلافَ المحْضَ منهن طَعمُه ... إذا جَعَلتْ أيدي الكواكبِ تَضْجَعُ
على خَصِراتِ المُسْتقى بعد هَجعةٍ ... بأمثالِها تَرْوى الصَوادي فتنقَعُ
جميل بن معمر:
وَشَّف عنها خِمارُ القَزِّ عن بَرَد ... كالبرقِ لا كَسَسٌ فيها ولا ثَعَلُ
كأنه أقحوانٌ باتَ يَضربُه ... من آخر الليلِ منْقاضُ الندى هَطِلُ
كأنّ صِرْفًا كُمَيتَ اللونِ صافيةً ... صَهباءَ عانِيَّةً في طَعمِها عسلُ
فوها، إذا ما قَضَتْ من هَجعةٍ وَطرًا ... أو اعْتراها سُباتُ النومِ والكسلُ
ذو الرمة:
أناةٌ كأنّ المسكَ أو نَوْرَ حَنوةٍ ... بِمَيْثاءَ مرجوعٌ عليها التِثامُها
كأنّ على فيها تَلألُؤَ مُزنةٍ ... وميضًا إذا زانَ الحديثَ ابتسامُها
مضرس بن ربعي:
تَعاورنَ مِسكًا بالأكُفِّ يدُفْنَهُ ... وأخضرَ من نَعْمانَ حُوًّا مكاسِرُهْ
يَمِحْنَ به عَذْبَ الرُضابَ كأنّهُ ... جَنى النحلِ لَّما أنْ تَحَلَّبَ قاطِرُهْ
ابن الرومي:
كأنَّيَ لم أبِتْ أُسقى رُضابًا ... يموتُ به ويَحيا المُستهامُ
تُعَلِّلُنيهِ واضحةُ الثَنايا ... كأنَّ لِقاءَها حَوْلًا لِمامُ
تَنَفَّسُ كالشَّمولِ ضُحىً شَمالٌ ... إذا ما فُضَّ عن فيها الخِتامُ
والبة بن الحباب:
ومُصطبِحٍ بِتَقْبيلِ الحبيبِ ... خَلا من كلِّ واشٍ أو رقيبِ
وأكرعَ فاهُ في بَرَدٍ وخمرٍ ... فقُلْ ما شئِتَ في شُربٍ وطيبِ
عمر بن أبي ربيعة:
يَمُجُّ زكيَّ المسكِ منها مُفلَّجٌ ... نقيُّ الثَنايا ذو غُروب مُؤشَّرُ
يَرِفُّ إذا تَفْتَرُّ عنه كأنهُ ... حَصى بَردٍ أو أقحوانٌ مُنَوَّرُ
أبو تمام:
وثَنايا كأنها إغريضُ ... ولآل تُومٌ وبرقٌ وَميضُ
وأقاحٍ مُنَوَّرٌ في بِطاحٍ ... هزَّهُ في الصباحِ رَوضٌ أريضُ
وأخبرني أبو سعيد السيرافي عن ابن ابي الأزهر عن ابن لرة عن ابن السكيت. أن أبا عمرو الشيباني فسر قول تأبط شرًا:
وَشِعْبٍ كَشَكِّ الثوبِ شَكْسٍ طريقُهُ ... مَجامِعُ ضَوْجَيْهِ نِطافٌ مخاصِرُ
1 / 17
تَعَسَّفْتُهُ بالقومِ، لم يهدِني لهُ ... دليلٌ، ولم يُثْبتْ ليَ النعْتَ خابِرُ
أنه يعني به فم المرأة وريقها واسنانها.
أبو تمام أيضًا يقول:
ونظامُ ثَغرٍ ما تَهلَّلَ وَشيُهُ ... إلاّ بكى خَجَلًا نظامُ الجوهرِ
يُهدي إليه نسيمَه فكأنّهُ ... شِيَبتْ جوانبُهُ بِمسكٍ أذْفَرِ
ذو الرمة:
أرَيْنَ الذي اسْتَوْدَعْنَ سَوداءَ قلبهِ ... هوىً مثلَ شكٍّ بالرماحِ النَّواجمِ
عيونَ المها والمسكَ يَندى عَصيمُهُ ... على كلِّ خدٍ مُشرقٍ غيرِ واجمِ
ودرًّا تُجَلِّي عن عِذابٍ كأنها ... إذا نَغمةٌ جاوَبْنَها بالجماجِمِ
ذُرى أقحوانِ الرملِ هزَّتْ فروعَه ... صبًا طَلَّةٌ بين الحُقوفِ اليَتائمِ
طرفة:
وتَبسِمُ عن ألمى كأن مُنَوِّرًا ... تخلَّلَ حُرَّ الرملِ دِعصٌ له نَدي
سَقتهُ إياةُ الشمسِ إلالِثاتِهِ ... أُسِفَّ ولم تَكْدُمْ عليه بإِثمِدِ
وكانت العرب إذا سقطت لأحدهم سن أخذها ورمى بها في عين الشمس وقال: أبدليني خيرًا منها؛ وقد بين ذلك قوله:
بَدَّلتْه الشمسُ من مَنبِتِهِ ... برَدًا أبيضَ مَصقولَ الأُشُرْ
وهذا من أوابدهم، كالطارف والمطروف، وقلي السنام والكبد، وتصفيق اليدين وقلب الثياب، واتخاذ الزورين في الحرب، ورقية الفروك بأفول القمر، ورمي الحصاة وقذف النواة، وتسمية أم الفصيل، وهؤلاء من رموز العرب كأوهام الهند.
الباب الحادي عشر
طيب الريق والنكهة
ابن ميادة:
كأنّ على أنيابها المسكَ شابَهُ ... بُعْيدَ الكَرَى مِن آخر الليلِ غابقُ
وما ذُقتُه إلاَ بعيْني تفرُّسًا ... كما شِيم في أعلى السحابةِ بارِقُ
يضمُّ إليَّ الليلُ أذيالَ حُبِّها ... كما ضَمَّ أردانَ القميصِ البنائقُ
ذو الرمة:
كأنّما خالطتْ فاها إذا وَسِنَتْ ... بعد الرُقاد بما ضمَّ الخياشيمُ
مخزونةٌ من خُزامى الحُزْن هِيَّجَها ... من لَفِّ ساريةٍ لوثاءَ تَهمِيمُ
أو نفحةٌ من أعالي حَنْوةٍ مَعجَتْ ... فيها الصَّبا مَوْهِنًا والروضُ مَرهومُ
ابن الرومي:
أهْيفُ الغُصنِ أهْيلُ الدِعصِ لمَّا ... يَقتسِمْ قَدَّهُ وِشاحٌ ومِرْطُ
طَيِّبٌ طعمُهُ إذا ذُقتَ فاهَ ... والثُريّا في جانِبِ الغَربِ قُرطُ
الهذلي:
وما صهباءُ صافيةٌ شَمولُ ... كعينِ الديكِ مُنْجابٌ قَذَاها
تُشَجُّ بماء ساريةٍ غَريضٍ ... على صَمّانَةٍ رَصفٍ صَفاها
بأطيبَ نَكهَةً من طعمِ فيها ... إذا ما طارَ عن سِنَةٍ كَراها
وضاح اليمن في صفة الريق نفسه:
يا روضَةَ الوَضَّاحِ قَد ... عنَّيْتِ وضَّاح اليمنْ
اسْقي خليلَكِ من شَرا ... بٍ لونُه لونُ اللَّبنْ
الطعمُ طعمُ سَفَرْجَلٍ ... والريحُ ريحُ سُلافِ دَنْ
ابن هرمة:
خوْدٌ تُعاطيكَ بعد رَقْدَتها ... إذا يُلاقي العُيونَ مَهْدَؤُها
كأسًا بِفيها صَهْبا مُعتَّقَةً ... يَغلو بأيدي التِّجارِ مَسْبَؤُها
جرير:
خَليليَّ: هلْ في نظرةٍ إن نظرتُها ... أُداوي بها قلبًا عَليَّ فُجورُ
إلى رُجُحِ الأكفالِ غيدٍ من الصِّبا ... عِذابِ الثَّنايا رِيقُهُنَّ طَهورُ
ذو الرمة:
أسيلةُ مَجْرى الدَمْعِ هَيفاءُ طَفْلَةٌ ... عَروُبٌ كإيماضِ الغَمامِ ابْتِسامُها
كأنَّ على فِيها، وما ذُقتُ طعمَهُ، ... مُجاجةَ خمرٍ طابَ فيها مُدامُها
عمر بن أبي ربيعة:
كأن المدامَ وصَوْبَ الغمامِ ... وريحَ الخُزامى وذَوْبَ العَسلْ
يُعلُّ به بَرْدُ أنيابِها ... إذا ما صَغا الكوكبُ المُعْتَدِلْ
هذا وفاق بينه وبين امرئ القيس:
كأنّ المدامَ وصوبَ الغمام ... وريحَ الخُزامى ونَشْرَ القُطُرْ
يُعَلَّ به بردُ أنيابها ... إذا طَرَّبَ الطائرُ المُسْتَحِرْ
النابغة الذبياني:
كأنّ مُشَعْشعًا من خمر بُصرى ... نَمتْه البُخْتُ مشدودَ الخِتامِ
إذا فُضَّتْ خواتِمُها عَلاها ... يبيسُ القُمَّحَانِ من المُدام
على أنيابها بِغريضِ مُزنٍ ... تَقَبَّله الجُناةُ من الغَمامِ
1 / 18
زهير بن ابي سلمى:
كأن ريقَتَها بعد الكرَى اغْتُبِقَتْ ... مِن طيَّب الراحِ لمَّا يَعْدُ أنْ عَتَقا
شَجَّ السُقاةُ على ناجودِها شَبِمًا ... مِن ماءِ لِينَةَ لا طَرْقًا ولا رَنِقا
الأعشى:
تُعاطي الضَجيعَ إذا أقْبلتْ ... بُعَيْدَ الرُقادِ وبعد الوَسَنْ
صَرِيفيَّةً طيِّبًا طَعمُها ... لها زَبَدٌ بين كُوبٍ ودَنْ
يَصُبُّ لها الساقيان المِزا ... جَ مُنْتَصَفَ الليلِ من ماءِ شَنْ
الباب الثاني عشر
حسن الحديث والنغمة
أنشد:
يا أطيبَ الناسِ إنْ مازَحْتَها عِللاَ ... وأحسنَ الناسِ إن جادَلْتَها جَدَلا
كأنَّما عَسَلٌ رُجعانُ مَنطِقِها ... إنْ كان رَجْعُ كلامٍ يُشْبِهُ العَسلا
ذو الرمة:
وإنّا لنُجْري بَيْننا حينَ نَلْتقي ... حديثًا له وَشْيٌ كوشْيِ المَطَارفِ
حَديثًا كوَقعِ القَطْرِ في المَحْلِ يُشْتَفى ... بهِ من جوىً في داخِلِ القلبِ لاَطِفِ
وله:
ولمَّا تلاقَيْنا جَرَتْ من عيُونِنا ... دُموعٌ كَفَفْنا غَرْبَها بالأصابعِ
ونِلنا سُقاطًا من حديثٍ كأنهُ ... جَنى النحلِ مَمزوجًا بماءِ الوَقائعِ
بشار بن برد:
وكأنَّ رَجْعَ حَديِثِها ... قِطَعُ الرياضِ كُسِينَ زَهْرا
وكأنَّ تحتَ لِسانِها ... هاروتَ يَنْفُثَ فيهِ سِحْرا
وتَخالُ ما اشْتَملتْ عليهِ ثِيابُها ذَهَبًا وعِطْرا
الأحوص:
وأعْجَلنا وَشْكُ الحديثِ وبيننا ... حديثٌ كَتَنْشِيجِ المريضَيْنِ مُزْعِجُ
حديثٌ لو أنَّ اللحمَ يَصْلى بِبَعْضهِ ... غَريضًا أتى أصحابَهُ وهو مُنْضَجُ
ابن ميادة:
شُمُسٌ لدى خَطَلِ الحديث أوانِسٌ ... يَرْقُبْنَ كلَّ مُلَعَّنٍ تِنْبَالِ
أُنُفٌ كأن حديثَهُنَّ تَنادُمٌ ... بالكأسِ كل عقيلةٍ مِكْسالِ
أبو ذؤيب:
وإن حديثًا منكِ لو تَبْذُلينَهُ ... جَنى النحلِ في ألبانِ عُوذٍ مَطافِلِ
مَطافيلَ أبكارٍ حديثٍ نِتاجُها ... يُشابُ بماءٍ مِثْلِ ماءِ المفاصِلِ
ابن الرومي:
شادنٌ من نَشرهِ المسكُ ومن فيهِ المدامُ
فاتِنُ الطُرَّةِ والغُرَّةِ ما فيهِ مَلامُ
وله نَثرٌ من الدُرِّ مليحٌ ونِظامُ
فالنِظامُ المَضْحكُ الوا ... ضِحُ والنَثْرُ الكلامُ
وهذا قد سبقه إليه البحتري بأحسن تفصيل وأعذب كسوة فقال:
فلمَّا الْتقْينا والنَّقى مَوعدٌ لنا ... تعجَّبَ رائي الدُرِّ حُسنًا ولاقِطُهْ
فمِن لُؤلُؤٍ تجلوهُ عند ابتسامِها ... ومِن لُؤلُؤٍ عند الحديثِ تُساقِطُهْ
آخر:
ظَلِلْنا نَشاوى عند أمِّ محمدٍ ... بِيومٍ ولم نَشربْ شَرابًا ولا خَمرا
إذا صَمتتْ عنّا ضَجِرنا بصَمتِها ... وإنْ نطقتَ هاجَتْ لألبابنا سُكرا
سلم الخاسر:
يُمسي ويُصبحُ مُعْرِضًا فكأنهُ ... مَلِكٌ عزيزٌ قاهرٌ سُلطانُهُ
ليست إساءَتُهُ بِناقصةٍ لهُ ... عِندي، وليس يَزيدُه إحسانُهُ
رَخْصُ البَنَانِ كأن رَجْعَ كلامِهِ ... دُرٌّ يُساقطُه إليَّ لسانُهُ
ومن البيت الثاني أخذ المتنبي قوله في عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
لو كَفَرَ العالَمونَ نعمته ... لما عَدَتْ نَفْسُهُ سَجاياها
كالشمسِ لا تَبتغي بما صَنعتْ ... مَنفعةً عندهمْ ولا جاها
وأكثر من نرى يقدر أن المتنبي أبدع في قوله:
وقد صُغْتَ الأسِنَّةَ من هُمومٍ ... فما يخطُرْنَ إلاَّ في فُؤادِ
وربما ينظر إلى قول أبي تمام حيث يقول:
مِن كلِّ أزرقَ نَظَّارٍ بلا نظرٍ ... إلى المَقَاتِلِ ما في مِتْنِه أوَدُ
كأنهُ كانَ تِرْبَ الحُبِّ من زَمنٍ ... فليس يُعْجِزُهُ قلبٌ ولا كَبدُ
وكذلك قوله في سيف الدولة:
فأنتَ حُسامُ المُلكِ واللهُ ضاربٌ ... وأنتَ لواءُ الدينِ واللهُ عاقِدُ
وكرر كثيرًا إعجابًا به فقال:
على عاتِقِ الملكِ الأغرِّ نِجادُهُ ... وفي يَدِ جبَّارِ السماواتِ قائِمُهُ
وقال:
وَلِمْ لا يَقِي الرَحمنُ حَدَّيْكَ ما وَقى ... وتَفليقُهُ هامَ العِدا بِكَ دائِمُ
1 / 19
وعول في جميعه على أبي تمام حيث يقول في الخليفة:
لقد حانَ من يُهدي سُوَيْداء قلبِهِ ... لحَدٍّ سِنانٍ في يَدِ اللهِ عامِلُهُ
وقال أبو تمام أيضًا في المعتصم.
رَمى بك اللهُ بُرجَيْها فهدَّمَها ... ولو رَمى بكَ غيرُ اللهِ لم يُصِبِ
قال الله ﷿: " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " مثل هذه السرقات الخافية العين والأثر لا يقف عليها، ولا يفطن لها إلا الرواية النحرير الذي دوخ ساحة الشعر بحفظه، وصارت الدواوين مجاجة ذهنه.
أعرابي:
ونازَعَنا وحيًا خَفيًّا كأنهُ ... على المُجْتَني، الريحانُ أمرعَ خاضِلُه
حديثٌ لو أنَّ العُصْم تسمعُ رَجْعَه ... تَضَعْضَعَ من أعلى أبانٍ عواقِلُهْ
ابن الرومي:
وحَديثُها السحرُ الحلالُ لو أنّهُ ... لم يَجْنِ قتلَ العاشقِ المُتَحرِّزِ
إن طالَ لم يُمْلَلْ، وإنْ هي أوْجزتْ ... ودَّ المحدَّثُ أنها لم تُوجِزِ
شَرَكُ العقولِ ونزهةٌ ما مثلُها ... للمُطْمئِنِّ وعُقْلَةُ المُستَوْفِزِ
والمحدث لا بد له من كسور وزوايا تعتريه في شعره. فالطبع المبسوط، والكلام المسبوك للعرب.
ذو الرمة:
أولئكَ آجالُ الفتى إن أرَدْنَهُ ... بقتلٍ وأسبابِ السَقامِ المُلازِمِ
يُقارِبْنَ حتى يطمعَ التابعُ الهوى ... وتَهتَزُّ أحناءُ القلوبِ الحوائِمِ
حديثٌ كَطعْمِ الشَّهدِ حُلوٌ صدورُهُ ... وأعجازُهُ الخُطْبانُ دونَ المحارمِ
والبيت الثاني أخذ منه الحسين بن مطير الأسدي قوله:
يُمَنِّيَننا حتى تَرِفَّ قلوبُنا ... رَفيفَ الخُزامى باتَ طلِّ يَجودها
أعرابي:
وحَديثُها كالقَطْرِ يسمَعُهُ ... راعي سِنينَ تتابَعَتْ جَدْبَا
فأصاخَ يرجو أنْ يكونَ حيًا ... ويقولُ مِنْ فرحٍ أيا رَبّا
أبو العميثل:
لقيتُ ابنةَ السَّهْميِّ زينبَ عن عَفْرِ ... ونحن حَرامٌ مُسْيَ عاشرةِ العَشْرِ
فَكَّلمْتُها ثِنْتَيْنِ كالثّلجِ مِنهما ... وأخرى على قلبي أحرُّ من الجَمرِ
وإني وإيّاها لَحتْمٌ مَبيتُنا ... جميعًا وَسْيرانا مُغِدٌّ وذو فَتْرِ
آخر:
لَها مُزاحٌ ولها كلامُ ... كجوهرٍ ألَّفهُ نظامُ
يُسكرُنا كأنّه مُدامُ ... له بقلَبِ المُصطَلي ضِرامُ
فهو حلالٌ غِبُّه حرامُ ... يَشفي سَقامًا وهُوَ السَّقامُ
وهذه الأبيات من صادق العشق، وفاخر الشعر، وحر الكلام، وبارع الوصف.
قال هدبة العذري:
وكلُّ حديثِ الناسِ، إلاَّ حَديثَها ... رَجيعٌ، وفيما حدَّثَتْكَ الطرائِفُ
خَرَجْنَ بأعناقِ الظِباءِ وأعيُنِ ال ... جآذِرِ؛ وارتجَّتْ بهنَّ الروادِفُ
رَجحنَ بأردافٍ ثِقال وأسْوُقٍ ... خِدالٍ، وأعضادٍ عليها المطارِفُ
كَشفْنَ شُفوفًا عن شُنُوفٍ وأعرضتْ ... خدودٌ، ومالتْ بالفُروع السوالِفُ
عليهِنَّ من صَوْغِ المدينةِ حِلْيَةٌ ... جُمَانٌ كأجوازِ الدَّبى ورَفارفُ
آخر:
منَ الخَفِراتِ البيضِ وَدَّ جَليسُها ... إذا ما قضَتْ أُحدوثةً لو تُعيدُها
بشار:
وَلِلفْظِها دَلٌّ إذا نَطقتْ ... تركتْ بناتِ فُؤادِهِ صُعْراَ
كَتَساقُطِ الرَّطْب الجَنِيِّ من الأم فْنانِ لا نثْرًا ولا نَزْراَ
أبو حية النميري، وهو من مختار المقطعات ومتخير الألفاظ وقديمه:
وقد زعمَ الواشونَ أنْ لا أُحِبُكُمْ ... بلى وسُتورِ اللهِ ذاتِ المحارِمِ
أصُدُّ وما الصَدُّ الذي تَعْلَمينَهُ ... عَزاءً بنا إلا اجْتِراعُ العَلاقِمِ
حَياءً وتُقْيا أنْ تَشيعَ نَميمةٌ ... بنا وبكم. أُفًا لأهل النْمائِمِ
وإنَّ دَمًا، لو تَعلَمينَ، جَنتْيهِ ... على الحيِّ، جاني مِثْلِه غيرُ سالِمِ
أَما إنَّه لو كانَ غَيركِ أرْقَلتْ ... صُدورُ القَنا بالراعِفاتِ اللَّهازِمَ
ولكنَّهُ، واللهِ، ما طَلَّ مُسلمًا ... كَبيضِ الثَّنايا واضِحاتِ المباسمِ
إذا هُنَّ ساقَطْنَ الأحاديثَ للفتى ... سُقوطَ حصى المرجانِ من سِلْكِ ناظِمِ
رَمَيْنَ فأقْصدْنَ القلوبَ، ولا تَرى ... دَمًا مائِرًا إلا دَمًا في الحَيازِمِ
1 / 20